تبلغ مکة فی موسم الحج والعمرة اوج حرکتها وحیویتها المعنویة، ولقد أجری الاسلام تغییرات مهمة فی مناسک الحج الجاهلی وآدابه، وجعله واجبا عینیا علی کل مسلم مرة واحدة فی حیاته إن استطاع إلیه سبیلا، والذی أبطله الاسلام
من مناسک الحج الجاهلی تلک الامور المتصلة بالاصنام أو التی لا تلیق بالآداب العامة، وحافظ علی تلک المراسم التی تؤکد التوحید والاخلاص للعبادة للّه وحده وتبنی السلام وتشیع الأمن العام وترسخ الوحدة بین المسلمین، کما شدد علی إقامة المناسک التی من شأنها أن تزیل الامتیازات الطبقیة او الاقتصادیة او العنصریة وتقوی رابطة الأخوة بین المسلمین جمیعا، بما فیهم الفقراء والاغنیاء، الضعفاء والاقویاء دون فرق بین احد منهم. لما حج النبی (ص) خطب الناس بعرفة وقال (ص): إن اهل الشرک والاوثان کانوا یدفعون من عرفة إذا صارت الشمس علی رؤوس الجبال کأنها عمائم الرجال فی وجوههم، ویدفعون من مزدلفة اذا طلعت الشمس علی رؤوس الجبال فانها عمائم الرجال فی وجوههم، وإنا لا ندفع من عرفة حتی تغرب الشمس وغسل فطر الصائم، وندفع من مزدلفة غدا إن شاء اللّه قبل طلوع الشمس هدینا مخالف لهدی اهل الشرک والاوثان. (1)
کانت قریش تری لنفسها امتیازات واحکام خاصة فی الحج، بعبارة اخری کان لها حجمها الخاص، فهی لا تخرج عن إطار حدود الحرم ولا تری الوقوف بعرفات جزءا من الحج، بل تراه واجبا علی اهل الحل، فقط ، وهم اولئک الذین یأتون من خارج حدود الحرم، بینما کان یجب علی باقی الناس أن یخلعوا ما علیهم من ملابس ولا یدخلوا فی مناسک الحج إلا بعد أن یرتدوا ملابس یشترونها او یستعیرونها من قریش، فی وقت کان القرشیون یؤدون مناسکهم بلباسهم العادی دون تغییر او تبدیل. وفی حال عجزهم عن الحصول علی ملابس قرشیة – شراء او إعارة – کان علیهم ان یطوفوا عراة کما ولدتهم أمهاتهم. وقد شجب الباری جل شأنه هذه الفاحشة ونهی عنها فی محکم کتابه الکریم: (واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا علیها آباءنا واللّه امرنا بها قل ان اللّه لا یأمر بالفحشاء أتقولون علی اللّه ما لا تعلمون) «الاعراف: 28».
ینقسم العرب فی أدائهم لمراسم الحج الی مجموعتین: مجموعة (الحمس) ومجموعة (الحلة) او اهل الحل، ولکل من المجموعتین اعمالها الخاصة فی الحج، وقد أضاف البعض مجموعة ثالثة سماها (الطلس) وهم الذین یحجون بمناسک بعضها من الحمس وبعضها الآخر من اهل الحل. والحمس هم اهل قریش وقبائل خزاعة والقبائل التی لها صلة ونسب بقریش. وقد استغلت قریش موقعها فی سدانة الکعبة المشرفة، فاتخذت لنفسها امتیازات خاصة، کالتی أشرنا إلیها من عدم الوقوف بعرفات والطواف بنفس ملابسهم دون حاجة الی تبدیلها کما هو الحال مع اهل الحل، غیر أنهم ألزموا انفسهم التزامات اخری وشددوا علیها، فاذا نسکوا لم یدخروا لبنا، ولم یحولوا بین مرضعة ورضاعها حتی یعافه، ولم یجزوا شعرا ولا ظفرا، ولم یدهنوا، ولم یمسوا النساء ولا الطیب، ولم یاکلو الحما، ولم یلبسوا فی حجهم وبرا ولا صوفا ولا شعرا، یلبسون الجدید، ویطوفون بالبیت فی نعالهم لا یطأون ارض المسجد تعظیما له،ولا یدخلون البیوت من ابوابها (2)
کان اکثر العرب یکفون عن الحرب والنزاع فی الاشهر الحرم: ذی القعدة وذی الحجة ومحرم. وقد اتبع هذا التقلید أصلا – کما یبدو – لوقوع الحج فی هذه الأشهر الثلاثة، ولبلوغ التجارة ذروتها فی هذا الموسم من السنة، ومن الواضح أن مناسک الحج تبدأ فی ذی الحجة، غیر أن حرکة السوق تکون مع توافد الزوار وتقادم الحجیج فی ذی القعدة، ولا تنتهی الا بعد رحیلهم الی أوطانهم. وقد یمتد ذلک الی المحرم، ولکی تؤمن الطرق وتمنع الغارات ویشعر الناس بالاطمئنان، فتزدهر التجارة، وینشط السوق، فلا بد من فرض مثل هذا الموسم السلمی. والذی یشعر فیه الزوار بالأمان، ویجد فیه التجار المناخ المناسب لنمو أسواقهم وتوسع حرکتهم التجاریة. اما العمرة فموعدها شهر رجب، الذی ألحق هو الآخر بالأشهر الحرم، مع
أن هناک من بین القبائل العربیة من لا یؤمن بهذا الموسم ولا یقیم له وزنا، کقبیلتی (طیء) و (خثعم) اللتین لا تقیمان حرمة للحج او الکعبة. کان الناس یبدأون تجمعهم فی سوق عکاظ منذ الأیام الاولی لشهر ذی القعدة، ویقیمون هناک عشرین یوما یقضونها بالبیع والشراء وتبادل البضائع فی حرکة دائبة حتی یغادروا السوق الی مکان آخر یدعی (مجنة) یمکثون فیه عشرة أیام، وکان یموج بالحرکة، وتزدهر فیه التجارة، وبعد انقضاء ذی القعدة ودخول ذی الحجة یغادر الناس (مجنة) ویتجهون الی مکان آخر یعرف ب (ذی المجاز) ینشغلون فیه بالتجارة أیضا حتی یأتی الیوم الثامن او ما یسمونه بیوم الترویة، وهو آخر ایام التجارة، وفیه یبدأ الاستعداد لمغادرة (ذی المجاز) الی عرفة، وأول شیء یقومون به هو تخزین المیاه اللازمة لحملها معهم الیعرفات حیث لا ماء هناک، ومن هنا سمی هذا الیوم بیوم الترویة (ای یوم الارتواء من الماء). ومن ثم یشرع بمناسک الحج ومراسم العبادة، حیث تلبی کل قبیلة تلبیتها الخاصة بها، وتردد شعار الولاء لآلهتها. کانت قریش وباقی العرب تحرم دخول أسواق عکاظ ومجنة وذی المجاز قبل عقد الإحرام وارتداء الملابس الخاصة به، وبدخول الانسان حالة الاحرام یصبح فی حالة روحانیة خاصة – تصده عن ارتکاب التجاوزات والاعتداء علی الاخرین، ویستبطن هذا الامر نقطتین مهمتین: الأولی: اعتیاد العرب علی الاعتداء والغصب والغزو، الامر الذی تحول الی عادة وسنة من سننهم، لا یمتنعون عنها الا حینما یبدأ الموسم التجاری السنوی، وتنشط الاسواق العامة بحرکة البیع والشراء والکسب. الثانیة: رغم تحول هذه الحالة – ای حالة الاعتداء والغزو – الی صفة عامة لجمیع العرب تقریبا، إلا أنه کان یرفضها الوجدان العام ولا یقرها الضمیر الباطنی، لهذا کانوا ومنذ القدم یمتنعونعن هذه الاعمال ویأبون ارتکابها عند دخولهم فی حالات دینیة وروحیة معینة.
یبدو أن الدخول فی حالة القداسة الدینیة (الاحرام) والتجارة کانا توأمین، فمن ناحیة یطمئن الوجدان الدینی وتکون الاحساسات والمشاعر الروحیة والمعنویة فی حالة من السکینة والاستقرار، ومن ناحیة ثانیة تجد التجارة مناخا جیدا من الأمن والأمان یساعد علی نموها ویوفر للقوافل التجاریة طرقا آمنة وسوقا مزدهرة. وبناء علی هذا فإن هذه الاشهرالثلاثة المتتالیة التی تسمی الأشهر الحرم، تمثل قمة الحیویة الروحیة وذروة النشاط الاقتصادی والاجتماعی وتکثر فیها الأفراح والاحتفالات. لقد أقر الاسلام هذه الأشهر الحرم، ووجد فیها فرصة جیدة لتأکید اهتمامه بالأمن وحرصه علی رفاه الناس واستقرارهم، ثمعمل علی تهذیب مناسک الحج مما علق بها من مظاهر الشرک وشوائب الجاهلیة، وفی الوقت نفسه أقر ما فیه من طقوس تعود بالنفع المادی والمعنوی علی الناس، وأضاف إلیه مناسک ترقی به من الجانب الروحی وتضفی علیه مسحة عبادیة وروحیة خاصة. فمن التقالید التی نهی عنها الاسلام مسالة (الصرورة) وتطلق علی الحجة الاولی للشخص ویقال لصاحب هذه الحجة (الصرور). إذ یبدو أن العرب قد اعتادوا فی الجاهلیة علی ترک المجرم حتی لو ارتکب ذنبا عظیما کالقتل، وعدم التعرض له فی الحرم المکی فیما لو ادعی أنه صرور ولم یسبق له أن حج او تعرفعلی ما یجب اجتنابه فی موسم الحج. لقد نهی الرسول (ص) عن ذلک، وقال: «لا صرورة فی الاسلام»، ودعا الی معاقبة المذنبین والاقتصاص منهم وعدم السماح لهم بارتکاب ما من شأنه انتهاک حرمة الحرم المکی.وقال البعض: ان الصرورة تعنی الرهبانیة واعتزال النساء. (3)
1) الازرقی، تاریخ مکة: ص 189.
2) تاریخ الیعقوبی: 1/ 256.
3) الازرقی: ص 132، لسان العرب، مادة حرر.