لمس الیهود خطر تنامی قوة الإسلام و المسلمین فی المدینة. فالکیان الطری أصبح أشد عودا و أقوى شکیمة و تحولت الرسالة الإسلامیة الى قوة تحکم.
و قبل بدر کانت معاهدة الصلح صمّام الأمان الذی یقبض على طرفی الصراع و یحول دون الانفجار، لکن النصر المؤزر للمسلمین فجّر روح العداء و ألهب نزعة الشرّ الیهودیة تعینها أطراف النفاق الاخرى، و جعلوا یتغامزون و یتآمرون، و یرسلون الأشعار و یجهدون فی التحریض على المسلمین الذین أصبح لهم سلطان جدید مضافا إلى دینهم الجدید.
و لم تکن أخبارهم لتخفى على الرسول (صلّى الله علیه و اله). و تحرکت فی نفوس المسلمین الجرأة فی الدفاع و الحرص على الإسلام و النبی (صلّى الله علیه و اله)، فلم یتمالک الفدائی المسلم- هو سالم بن عمیر- نفسه حین سمع رجلا مشرکا- هو أبو عفک من بنی عوف- یسیء للنبی فقتله(1) و تکرّرت المحاولة مع مشرکة حاقدة- هی عصماء بنت مروان-(2) و تمکن المسلمون أیضا من اغتیال کعب بن الأشرف إذ تمادى فی التعریض و الاستهزاء و النیل من أعراض المسلمین(3)
و لم تتوقف مساعی الیهود التحریضیة و نشر الأباطیل و الدعایات الکاذبة و التشهیر بالمسلمین ناقضین بذلک عهد الموادعة و التعایش السلمی و أراد نبی الرحمة (صلّى الله علیه و اله) أن یخلص و إیاهم الى الاستقرار فخرج رسول الله (صلّى الله علیه و اله) الى یهود
بنی قینقاع یدعوهم بالحکمة و الموعظة الحسنة و ینذرهم من مغبّة سیاساتهم و تصرّفاتهم اللامحمودة فقال لهم بعد أن جمعهم فی سوقهم: «یا معشر الیهود احذروا من الله مثل ما نزل بقریش من النقمة، و أسلموا فإنکم قد عرفتم أنی رسول الله تجدون ذلک فی کتابکم و عهد الله إلیکم».
و لم یزدهم ذلک إلّا علوّا و استکبارا فقالوا: یا محمد لا یغرّنک من لقیت، انّک قهرت اقواما أغمارا و إنّا و الله اصحاب الحرب و لئن قاتلتنا لتعلمنّ انّک لم تقاتل مثلنا(4)
و تجلّت خسّة الیهود حین أساؤوا إلى امرأة من المسلمین و نالوا من کرامتها و انتهى الأمر الى قتل یهودی و مسلم فعندها سار النبی (صلّى الله علیه و اله) بالمسلمین فحاصر یهود بنی قینقاع فی دورهم خمسة عشر یوما متتابعة لا یخرج منهم أحد و لا یدخل علیهم أحد، فلم یبق لهم إلّا الاستسلام و النزول على حکم النبی (صلّى الله علیه و اله) بجلائهم عن المدینة تارکین عدّتهم و أدواتهم، فخلت المدینة من أهم عناصر الشر و ساد الهدوء السیاسی فیها إذ تضاءل تواجد و دور غیر المسلمین فی المدینة، بعد أن لمسوا قوة المسلمین و تطوّر التنظیم الإداری و ازدیاد قوّة القیادة و الدولة الإسلامیة التی کانت تعمل وفق مخطط حکیم.
1) المغازی: 1/ 174.
2) المصدر السابق: 1/ 172.
3) السیرة النبویة: 2/ 51.
4) المغازی: 1/ 176.