للقرآن الکریم عنایة فائقة بسیرة الانبیاء الهداة و له نهج خاص فی عرض سیرتهم صلوات الله علیهم أجمعین.
و المنهج القرآنی یقوم على مجموعة من الاسس و الاصول العلمیة فی کیفیة عرضه لسیرة الهداة المصطفین.
إنّ القرآن الکریم ینطلق من عنصر الهدایة و هو عنصر ترشید حرکة الانسان نحو الکمال اللائق به فیختار أهدافا واقعیة لمجموعة من الحوادث التاریخیة التی تشکّل منعطفا مهمّا فی حیاة الأفراد و الامم و تکون مفتاحا للدخول الى ابواب واسعة من العلوم و المعارف التی تخدم حرکة الانسان التکاملیة.
و القرآن الکریم یوظّف شتى الأدوات للوصول الى تلک الأهداف المثلى.
فهو یخاطب العقل و العقلاء و یفتح أمام الفکر الإنسانی آفاقا جدیدة حیث یقول:
1- فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ یَتَفَکَّرُونَ(1)
2- لَقَدْ کانَ فِی قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِی الْأَلْبابِ(2)
ف (التفکر) و (الاعتبار) فی حوادث التأریخ و السیرة (تاریخ الامم و سیرة القادة الهداة) یشکّلان هدفین أساسیّین فی المنهج القرآنی فی مجال للتاریخ.
و لا تقتصر الأهداف على هذین بل تتعدّاهما الى أهداف رسالیة اخرى تتجلى فی قوله تعالى:
ما کانَ حَدِیثاً یُفْتَرى وَ لکِنْ تَصْدِیقَ الَّذِی بَیْنَ یَدَیْهِ وَ تَفْصِیلَ کُلِّ شَیْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ یُؤْمِنُونَ(2)
و فی قوله تعالى: وَ کُلًّا نَقُصُّ عَلَیْکَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَکَ وَ جاءَکَ فِی هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِکْرى لِلْمُؤْمِنِینَ(3)
حیث تضمّنت کلّ آیة أربعة أهداف رسالیة لاستعراض أنباء المرسلین و التحدّث عن قصصهم.
و یعتمد القرآن الکریم فی منهجه التاریخی الذی یتفرّد به على الاصول التالیة:
1- الحق.
2- العلم.
3- المعاصرة للأحداث.
4- الاحاطة بها.
فلا یدع مجالا للریب و الافتراء فیما یحدّث عنه و یقصّه و یستعرضه من ظواهر تأریخیة و حوادث اجتماعیة سابقة أو معاصرة للتنزیل. ما دام یعتمد الحق
و العلم دون الخرافة و الخیال.
و قد أکّد هذین الأصلین بقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ …(4) و بقوله أیضا فی مطلع سورة الاعراف: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَیْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما کُنَّا غائِبِینَ(5) و فیه تصریح بعنصر المعاصرة للأحداث التی یقوم بعرضها.
و للقرآن الکریم بعد ذلک کله منهج علمی فی التحلیل و الاستنتاج الى جانب اعتماده على الاستقراء تارة و على الاستدلال تارة اخرى.
و حین یستعرض القرآن حیاة الرسل بشکل عام یذکر خطوطا عریضة تجعلهم فی صف واحد و خندق واحد و خط واحد هو خط الاسلام العام، کما قال تعالى: إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ(6)
ثم إنه یغور فی أعماق سیرة کل واحد من اولی العزم من الرسل لیحیط المتلقی بأهم مفاصل سیرتهم و زوایاها و لیربط بینها و بین ما سبقها و ما یلحقها من حوادث تتعلق بالخط الرسالی المستمر باستمرار الحیاة.
إنّ من طبیعة البحث التاریخی أن تناله ید التحریف و قد یغطیه الإبهام و الغموض و قد تستره سحب داکنة ریثما تتکشف الحقیقة بالتدریج و ینمو الانکشاف حتى یبلغ حدّا لا یستسیغ المجتمع الانسانی التغافل عنه و تجاوز الحقائق فیه.
و تشیر الآیة المبارکة (111) من سورة یوسف الى إمکان الافتراء و التلاعب بحقائق التاریخ أو المبالغة و البحث عن غیر علم و سدل الستار على الحق الذی لا بدّ أن یظهر فی ظرف ما.
و من هنا؛ کان على المدرسة القرآنیة أن تسلّح الباحث عن الحقیقة بسلاح موضوعی قادر على اکتشاف الحقیقة بشکل کامل.
لقد طرح القرآن الکریم نظریة الثوابت التی لا یمکن للفکر الانسانی أن یتجاوزها فی حال من الاحوال و سمّاها بالمحکمات و ام الکتاب. و هی الحقائق الثابتة و البینة للفکر الانسانی، و هی لا تقبل الریب أو التردید أو التشکیک بحال من الاحوال.
و الثوابت دائما تشکّل الخطوط العریضة و المعالم الاساسیة للفکر الانسانی الذی یستوعب ما لا یستوعبه عالم المادة، و لکنه لا یستسیغ أن یقف مکتوف الیدین أمام المبهمات و ما یختلف فیه أبناء آدم (علیه السّلام).
و یسوق القرآن الکریم للقارئ الواعی موقفین و اسلوبین من التعامل مع المبهمات أو ما یختلف فیه بنو آدم، و یحاکم هذین الاسلوبین لیخرج الى نتیجة بیّنة تصبح معیارا و تقدم قاعدة عامة للتعامل مع کل خبر یرد على الفکر الانسانی.
و یعود کل نوع من أنواع التعامل الى جذور نفسیة واضحة تنسحب على نوع التعامل و تنعکس فی اسلوب المواجهة مع کل حدیث ینقل الى الانسان و یراد من الفکر الانسانی أن یتخذ منه الموقف المناسب و الجدیر به.
قال تعالى بعد أن أشار الى أن القرآن هو الفرقان الذی نزله الله على رسوله الامین:
هُوَ الَّذِی أَنْزَلَ عَلَیْکَ الْکِتابَ مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِیلِهِ وَ ما یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِی الْعِلْمِ یَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما یَذَّکَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ – رَبَّنا
لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَیْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْکَ رَحْمَةً إِنَّکَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(7)
إن سلامة النفس من الزیغ تحول بین الانسان و بین ابتغاء الفتنة. و من هنا یتوقف الانسان الذی یتحرّى الحقیقة عن اتّباع المتشابه من الآیات، بل یرجع الأمر الى ربه.
فالعقل یقف حائلا بینه و بین أی تفسیر غیر علمی أو غیر مستند الى دلیل صحیح و حقائق ثابتة، بل العقل هو الذی یرشده الى الرکون الى المحکمات و الالتزام بأم الکتاب حیث یشکّل ذلک الاطار العام و الخطوط الثابتة التی لا یمکن تجاوزها بحال من الاحوال، و حینئذ من الطبیعی أن نلاحظ الآیات الاخرى فی ظل هذه الثوابت و هذه المعالم التی لا یمکن تجاوزها.
و هنا تتفتح آفاق النفس لآفاق الفکر لتتأمل فیما لا یکون صریحا أو واضحا فی بدایة الامر، و بهذا سوف یضمن العاقل الذى آمن بربّه عدم الزیغ و عدم التسرّع فی تفسیر و تحلیل ما یشاهده من الآیات المتشابهة، بل یقف منها موقف اللبیب الحکیم، و إن لم یفلح فی اکتشاف الحقیقة فإنه لا ینکرها و لا یستنکرها، و إنّما یرجع الامر الى مصدره و یوکل الامر الى ربه الذی نزّل الآیات هذه و یستفهم منه ما یبتغیه، طالبا منه استمرار الهدایة و نزول الرحمة.
إنه الموقف السلیم الذی یمثل النضج و التعامل المنطقی مع النصوص إذ لا یتسرع العاقل فی التوجیه و التحلیل.
و من هنا: قد نفهم الوجه فی قوله تعالى فی مطلع سورة هود: الر – کِتابٌ أُحْکِمَتْ آیاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَکِیمٍ خَبِیرٍ(8) فإن التفصیل إنما یکون بعد الإحکام و بعد أن تتعین الآیات التی هی ام الکتاب، و التی تعدّ هی الاسس و الخطوط الثابتة
کما أفصحت بذلک الآیة السابعة من سورة آل عمران مِنْهُ آیاتٌ مُحْکَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْکِتابِ(9)
و الآیة (39) من سورة الرعد تلقی بظلالها على هذه النقطة أیضا إذ تقول:
یَمْحُوا اللَّهُ ما یَشاءُ وَ یُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْکِتابِ فإن ما لا یتعرض للمحو و التغییر هو أم الکتاب. و ما دونه قد یتعرض للمحو و التغییر تبعا لاختلاف الظروف و الحالات و الطوارىء.
و تکفی هذه الآیات لرسم المنهج العام الذی یسیر علیه القرآن الکریم فی تعامله مع وقائع التاریخ، فإن الاختلاف فی التفاصیل لا یسمح لنا بإنکار الأصل و التغافل عنه و إدانة ما ثبت لدینا و تحققنا من وجوده.
و فی ضوء هذا یمکن تقویم کل ما ورد فی کتب السیرة النبویة أو التاریخ الاسلامی أو تأریخ ما قبل الاسلام مما یرتبط بالانبیاء و اممهم؛ فإنّ الثوابت التأریخیة هی محطّات الإشعاع و هی المحکمات التی لا یمکن تجاوزها بحال من الاحوال و الیها نحتکم فی تفسیر أو قبول أو ردّ ما أثبتته کتب التأریخ من نصوص تحتوی على الصحیح و الخطأ.
إذن؛ حقل التاریخ- و هو حقل اختلاط الحقائق بالأباطیل- یتطلب منا استعمال أدوات تسعفنا لکشف تمام الحقیقة الثابتة.
و ثوابت التاریخ- التی أیّدتها محکمات العقل و النقل- هی المنطلق لأی تفسیر أو تأویل أو محاکمة أو إدانة.
و قد طبّق القرآن الکریم هذا المنهج على سیرة الأنبیاء و اممهم بالذات حینما رسم لنا صورة واضحة یشترک فیها کل الأنبیاء و اعتبر النبوّة و الاصطفاء
ناشئین من مواصفات أساسیة فی شخصیة کل نبیّ، أهّلته لأن یختاره الله نبیّا لهدایة الخلق على یدیه، و هذه المواصفات هی: اکتمال العقل و الوعی و الصلاح و الصبر و العبودیة التامّة لله القائمة على الوعی و البصیرة، قال تعالى مخاطبا نبیّه: قُلْ إِنِّی عَلى بَیِّنَةٍ مِنْ رَبِّی …(10)، کما قاله له: قُلْ هذِهِ سَبِیلِی أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِیرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِی …(11)
هذا هو المنطق القرآنی الذی یمثّل الإحکام و الثبات … فکیف یبعث الله نبیّا لا یعی و لا یدرک أنه مبعوث أو مرسل من ربه و لا یطمئن الى ما یراه من آیات ربه إلّا أن یطمئنه الآخرون؟! فلا یعقل أن یبعث و یهیّأ للنبوة و هو لا یعلم أنه نبی و مبعوث من الله الى الخلق، أو یتردد أو یشک فی مهمّته، فضلا عن تصوّره أنه یستلهم الحقیقة ممّن یراد منه هدایته. قال تعالى مشیرا الى هذه الحقیقة:
… أَ فَمَنْ یَهْدِی إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ یُتَّبَعَ أَمَّنْ لا یَهِدِّی إِلَّا أَنْ یُهْدى فَما لَکُمْ کَیْفَ تَحْکُمُونَ(12)
إن الصورة الواضحة التى یرسمها القرآن الکریم عن شخصیة أنبیاء الله و التی تؤیّدها محکمات العقل هی التی تصبح موئلا و مرجعا محکما و ثابتا لمحاکمة کل صورة تسرّبت من التوراة و الانجیل أو جاءت فیما سمّی بالصحاح أو عامّة کتب التاریخ التی وردت فیها بعض القصص عن أنبیاء الله، سواء کان ذلک النبی هو إبراهیم (علیه السّلام) أو موسى (علیه السّلام) أو عیسى (علیه السّلام) أو محمد (صلّى الله علیه و اله)، و سواء کان الناقل لهذه الصورة بعض امّهات المؤمنین أو بعض الصحابة أو من یمتّ الى الرسول (صلّى الله علیه و اله) بصلة من قریب أو بعید.
1) الاعراف (7): 176.
2) یوسف (12): 111.
3) هود (11): 120.
4) آل عمران (3): 62.
5) الاعراف (7): 7.
6) آل عمران (3): 19.
7) آل عمران (3): 7- 8.
8) هود (11): 1.
9) آل عمران (3): 7.
10) الانعام (6): 57.
11) یوسف (12): 108.
12) یونس (10): 35.