قال ابن کثیر(1): فی وجه تسمیة «ذات الرقاع» وجوها: منها قول أبی موسى، فانّه قال: انّما سمّیت بذلک لما کانوا یربطون على أرجلهم من الخرق من شدّة الحر، ثم نقل قول الواقدی و انّه قال: خرج رسول الله (ص) الى ذات الرقاع فی أربعمائة و یقال سبعمائة من أصحابه لیلة السبت لعشر خلون من المحرّم سنة خمس … الخ.
و قال الزینی دحلان(2): و تسمّى غزوة ذات الرقاع غزوة محارب و غزوة بنی ثعلبة و غزوة بنی أنمار و غزوة صلاة الخوف لوقوعها فیها، و غزوة الأعاجیب لما وقع فیها من الأمور العجیبة، و اختلف فیها متى کانت و فی سبب تسمیتها بذلک، فقال ابن إسحاق: انّها کانت بعد بنی النضیر سنة أربع فی شهر ربیع الآخر و بعض جمادى الأولى، و قیل انّها کانت سنة خمس، و مال البخاری الى انّها کانت بعد خیبر، و خیبر انّما کانت سنة سبعة. و استدلّ لذلک بأمور: منها انّ هذه الغزوة حضرها أبو موسى الأشعری، و هو انّما جاء بعد فتح خیبر. و قال الغزالی: انّها آخر الغزوات، و غلّطه ابن الصلاح، و انتصر بعضهم للغزالی بانّ المراد آخر الغزوات التی صلّى فیها صلاة الخوف، و نازع بعضهم فی ذلک.
و سبب تسمیتها بذات الرقاع انّهم رقعوا فیها رایاتهم، و قیل لشجرة فی ذلک الموضع یقال لها ذات الرقاع، و قیل انّ الأرض التی نزلوا بها فیها بقع سود و بیض کأنها مرقّعة برقاع
فسمّیت ذات الرقاع لذلک، و قیل لأن خیلهم کان بها سواد و بیاض، و قیل لصلاتهم فیها صلاة الخوف فسمّیت بذلک لترقیع الصلاة فیها، لأنهم فعلوا بعضها منفردین عن النبی (ص) و بعضها معه، فأشبه ذلک إصلاح خلل الثوب برقعة.
قال السهیلی: و أصحّ الأقوال کلّها ما رواه البخاری و مسلم عن أبی موسى الأشعری قال: خرجنا مع رسول الله (ص) فی غزوة، و نحن ستة نفر- أی من الأشعریین- بیننا بعیر نعتقبه، فنقبت أقدامنا و نقبت قدمای و سقطت أظفاری، فکنّا نلفّ على أرجلنا من الخرق، فسمّیت غزوة ذات الرقاع لما کنّا نعصّب من الخرق على أرجلنا. الى أن قال: ثم خرج فی أربعمائة من أصحابه، و قیل سبعمائة، و قیل ثمانمائة و استعمل على المدینة أبا ذر الغفاری، و قیل عثمان بن عفّان. و سار الى أن وصل الى موضع یسمّى «وادی الشقرة»، و بثّ السرایا فرجعوا إلیه من اللیل و أخبروه انّهم لم یروا أحدا فسار حتّى نزل نخلا و هو موضع من نجد من أراضی غطفان، فلم یجدوا فی مجالسهم إلّا نسوة فأخذهنّ، فبلغ الخبر القوم فخافوا و تفرّقوا فی رؤوس الجبال، ثم أجمع جمع منهم و جاؤا لمحاربة جیش النبی (ص)، فتقارب الناس و دنا بعضهم من بعض، و أخاف الناس بعضهم بعضا حتّى صلّى النبی (ص) بالناس صلاة الخوف فی صلاة العصر، و لم یکن بینه و بین القوم حرب، و ألقى الله فی قلوبهم الرعب، و تفرّقت جموعهم خائفین منه (ص).
و فی هذه الغزوة نزل (ص) لیلا فی شعب استقبله، و کانت تلک اللیلة ذات ریح، فقال (ص) بعد نزوله: من یکلؤنا؟ فقام عباد بن بشر و عمّار بن یاسر فقالا: نحن یا رسول الله فجلسا على فم الشعب، فقال عباد بن بشر لعمّار بن یاسر: أن أکفیک أوّل اللیل و تکفینی أنت آخره، فنام عمّار و قام عباد، و کان زوج بعض النسوة اللاتی أصابهنّ رسول الله أی أسرهنّ غائبا فلمّا أخبر جاء الخبر فتبع الجیش و حلف لا ینثنى حتّى یصیب محمدا أو یهریق فی أصحاب محمد دما، فلمّا قرب من الشعب رأى سواد عباد، فقال: هذه رایة القوم، ففوّق سهما فوضعه فی عباد فانتزعه، فلمّا غلبه الدم قال لعمّار: اجلس، فجلس عمّار، فلمّا رأى المشرک عمّارا جلس علم انّه قد نذر به (أی اطّلع علیه) فهرب، فقال عمّار لعباد: أی أخی ما منعک أن
توقظنی له فی أوّل سهم رماک به؟ قال: کنت أقرأ فی سورة- یعنی سورة الکهف- فکرهت أن أقطعها.
و فی روایة جعل رسول الله (ص) شخصین من أصحابه یقال هما عباد بن بشر من الأنصار و عمّار بن یاسر من المهاجرین فی مقابلة العدوّ، فرمی أحدهما و هو عباد بن بشر بسهم فأصابه و نزفه الدم و هو یصلّی و لم یقطع صلاته ثم رماه بثان و ثالث و هو یصلّی و لم یقطع صلاته، و قد قال عباد معتذرا عن ترک إیقاظ صاحبه: لو لا انّی خشیت أن أضیع ثغرا أمرنی به رسول الله (ص) ما انصرفت و لو أتى على نفسی- یعنی و لو قتلنی-.
و قال الطبری(3): و قال- یعنی عمّار- سبحان الله أفلا أهبتنی أوّل ما رماک. قال: کنت فی سورة اقرأها فلم أحبّ أن أقطعها حتّى أنفذها، فلمّا تتابع الرمی رکعت آذنتک، و أیم الله لو لا أن أضیع ثغرا أمرنی رسول الله بحفظه لقطع نفسی قبل أن أقطعها أو أنفذها.
و قال ابن الأثیر(4): ثم رماه بالثالث فوضعه فیه، فانتزعه ثم رکع و سجد ثم أیقظ صاحبه و أعلمه، فوثب فلمّا رآهما الرجل علم انّهما علما به، فلمّا رأى المهاجری ما بالأنصاری قال:
سبحان الله ألا أیقظتنی أوّل ما رماک. قال: کنت فی سورة … الخ.
1) السیرة النبویة 3/ 160.
2) السیرة النبویة 1/ 264.
3) تاریخ الطبری 2/ 559.
4) الکامل 2/ 175.