کان النبی (صلّى الله علیه و اله) لا یدّخر وسعا و لا یتوانى فی السعی لنشر الرسالة الإسلامیة و دعوة أی عنصر یرى فیه الأمل و الخیر أو یجد فیه التأثیر و النفوذ ممن کان یقدم الى مکة لحاجة ما. و قد کانت مدینة یثرب تعیش صراعا سیاسیا و عسکریا بین أقوى قطبین فیها و هما الأوس و الخزرج، و کان یؤجج هذا الصراع عناصر من الیهود- بخبثهم و دسائسهم- فی جو من ضیاع القانون الإلهی.
و التقى النبیّ (صلّى الله علیه و اله) مع بعض شخصیات یثرب ممن جاء یبحث عن
تحالف یزید قوته، فما برحوا حتى تغلغل أثر الرسالة و صدق النبوة فی نفوسهم، ففی إحدى اللقاءات تحدث النبی (صلّى الله علیه و اله) الى جماعة من بنی عفراء- و هم ینتسبون إلى الخزرج- فعرض علیهم الإسلام و تلا علیهم شیئا من القرآن، فوجد فی عیونهم التجاوب و فی قلوبهم اللهفة لسماع المزید من الآیات … و تأکدوا من حدیث النبیّ (صلّى الله علیه و اله) أنه هو النبی الذی یقصده الیهود حینما کانوا یتوعدون به المشرکین فی یثرب کلما وقع شر بینهم فیقولون لهم: إن نبیا قد بعث الآن و قد أطلّ زمانه و سنتبعه و نقتلکم قتل عاد و إرم(1)
فأعلنوا فی الحال إسلامهم و کانوا ستة أشخاص و قالوا للنبیّ (صلّى الله علیه و اله): إنا قد ترکنا قومنا و لا قوم بینهم من العداوة و الشر مثل ما بینهم و عسى الله أن یجمعهم بک و سنقدم علیهم و ندعوهم إلى أمرک و إلى الدین الذی أجبناک علیه.
ثم انصرفوا راجعین إلى یثرب و شرعوا یتحدثون عن النبی (صلّى الله علیه و اله) و الرسالة و الأمل القادم لبناء حیاة یسودها الأمن و السعادة، حتى فشا أمر الرسالة الإسلامیة بینهم و لم یبق دار من دور یثرب إلّا و فیها ذکر لرسول الله (صلّى الله علیه و اله)(2)
و ما أسرع ما انقضت الأیام فلما کان موسم الحج للعام الحادی عشر من البعثة النبویة قدم وفد من أوس یثرب و خزرجها- و هم اثنا عشر رجلا- من بینهم الستة الذین أسلموا من قبل و التقوا برسول الله (صلّى الله علیه و اله) سرا فی العقبة- و هی المنفذ الذی یجتازه القادمون من یثرب صوب مکة- و أعلنوا هذه المرة بیعتهم للنبیّ (صلّى الله علیه و اله) على أن لا یشرکوا بالله شیئا، و لا یسرقوا، و لا یزنوا، و لا یقتلوا أولادهم و لا یأتوا ببهتان یفترونه بین أیدیهم و أرجلهم و لا یعصوه فی
معروف(3)
و لم یشأ النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یحملهم أکثر من ذلک، و أرسل معهم الشاب المسلم مصعب بن عمیر إلى یثرب لکی یتولى شؤون التبلیغ و التثقیف العقائدی بینهم، و بذا تمّت بیعة العقبة الاولى.
1) السیرة النبویة: 1/ 428، بحار الأنوار: 19/ 25.
2) تاریخ الیعقوبی: 2/ 37- 38، السیرة النبویة: 1/ 429، بحار الأنوار: 19/ 23.
3) السیرة النبویة: 1/ 433، تأریخ الطبری: 2/ 436.