یقول الطبری نقلا عن هشام بن محمد الکلبی: «ان اولاد عبد مناف کانوا اول من اخذ لقریش العصم»، أی اول من عقد صفقات تجاریة مع الدول المجاورة، فقد ابرم هاشم اتفاقا مع بیزانس امبراطور الروم فی الشام، واخذ عهدا من ملک الغساسنة للمتاجرة مع الشام، بینما عقد عبد شمس (الابن الاخر لعبد مناف) اتفاقا مشابها مع النجاشی الاکبر ملک الحبشة، ومضی نوفل (الابن الثالث لعبد مناف) الی بلاد فارس، فوقع مع خسروان امبراطور الفرس عقدا تجاریا، فی الوقت الذی اختار مطلب وهو الابن الرابع لعبد مناف الدولة الحمیریة، کطرف تجاری یتعامل معه، فأبرم مع ملکها (ابرهة) او (سمیفع) معاهدة تجاریة مماثلة للمعاهدات التی عقدها اخوته الثلاثة. وتتضمن روایة الطبری لهذه القصة نقطة مهمة حیث قال: «فانتشروا من الحرم»، ای خرجوا من مکة، وانطلقوا منها الی الخارج. ولعل ذلک العمل التجاری الاول الذی یقوم به اهل مکة مع الدول المجاورة، لیحصلوا منه ورائه علی موارد تتجاوز فی حجمها ما کانوا یحصلون علیه من الضرائب المالیة التی فرضت علی القوافل التجاریة المارة عبر مکة، وما کانوا یجمعونه من الحجیج فی کل عام، وقد رافق هذا النشاط التجاری اضطرابات واسعة وحروب عدیدة جرت علی ارض الیمن، وأدت الی امتناع بعض التجار
القدماء من ممارسة نشاطهم التجاری، فی الوقت الذی وقعت تجارة قریش جمیعها بید ابناء عبد مناف. وما یمکن ان نستخلصه من هذا السرد التاریخی أن تجارة قریش مع العالم الخارجی، وما کانت تدره علیها من موارد ضخمة، لم تنعکس آثارها علی المجتمع القرشی بصورة عامة، بل استأثر بها عدد محدود جدا من القرشیین شکل مع مرور الزمن طبقة راقیة، وتمضی الروایة الی القول: ان هذا الانتعاش التجاری تبعته سنوات من الضیق والشدة، بل القحط الذی حل بمکة، وذهب علی أثره الکثیر من ثرواتها. وحینها کان هاشم قد سافر الی الشام، وأمر من هناک باحضار الخبز وإرساله بأکیاس خاصة الی مکة، کما أوصی بذبح الإبل التی کانت تحمل الخبز الی مکة، وتوزیع لحمها علی الناس مع ثرید الخبز الذی کان ینقع بماء اللحم، ولهذا سمی بهاشم (لأنه هشم الثرید لقومه). ویفهم من ذلک أن التجار کانوا من فئات أخری غیر المزارعین واصحاب الحیوانات والإبل، کما أن القحط قد أصاب المزارع والحیوانات، ولم یضر بالتجار وتجارتهم، ولهذا استطاع هاشم (وهو التاجر المعروف) انقاذ الموقف بإرسال کمیات ضخمة من الخبز الی مکة، کما یفهم من توصیة هاشم بذبح الابل التی کانت تحمل هذا الخبز إلی مکة ان الابل قد فقدت هناک، واصبحت
مکة لا تجد منها ماتسد به رمقها.