قال ابن الأثیر: و فی هذه السنة- أی السنة الرابعة من الهجرة- فی صفر قتل جمع من المسلمین ببئر معونة، و کان سبب ذلک انّ أبا براء ابن عازب بن عامر بن مالک بن جعفر ملاعب الأسنّة سیّد بنی عامر بن صعصعة قدم المدینة و أهدى للنبی (ص) هدیّة فلم یقبلها
و قال: یا أبا براء لا أقبل هدیّة مشرک. ثم عرض علیه الإسلام فلم یبعد عنه و لم یسلم و قال: انّ أمرک هذا حسن، فلو بعثت رجلا من أصحابک الى أهل نجد یدعوهم الى أمرک لرجوت أن یستجیبوا لک. فقال رسول الله (ص): أخشى علیهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جار، فبعث رسول الله (ص) سبعین رجلا، فیهم المنذر بن عمرو الأنصاری و الحرث ابن الصمّة و حرام بن ملحان و عامر بن فهیرة و غیرهم، و قیل کانوا أربعین، فساروا حتّى نزلوا ببئر معونة من أرض بنی عامر و حرة بنی سلیم، فلمّا نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بکتاب النبی (ص) الى عامر بن الطفیل، فلمّا أتاه لم ینظر الى الکتاب وعدا على حرام فقتله، فلمّا طعنه قال: الله أکبر فزت و ربّ الکعبة، و استصرخ بنی عامر فلم یجیبوه و قالوا: لن نحضر أبا براء فقد أجارهم، فاستصرخ بنی سلیم فأجابوه و خرجوا حتّى أحاطوا بالمسلمین، فقاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم إلّا کعب بن زید الأنصاری فإنّهم ترکوه و به رمق، فعاش حتّى قتل یوم الخندق.
و قال الطبری(1): فبعث رسول الله المنذر بن عمرو و أخا بنی ساعدة المعنق فیموت فی أربعین رجلا من خیار المسلمین … الخ.
و قال محمد بن سعد(2): ثم سریّة المنذر بن عمرو الساعدی الى بئر معونة فی صفر على رأس ستّة و ثلاثین شهرا من مهاجر رسول الله (ص). الى أن قال: فبعث رسول الله (ص) مع أبی براء سبعین رجلا من الأنصار شببة یسمّون القراء، و أمّر علیهم المنذر بن عمرو الساعدی، فلمّا نزلوا ببئر معونة و هو ماء من میاه بنی سلیم و هو بین أرض بنی عامر و أرض بنی سلیم کلا البلدین یعدّ منه و هو بناحیة المعدن نزلوا علیها و عسکروا بها و سرحوا ظهرهم و قدّموا حرام بن ملحان بکتاب رسول الله الى عامر بن الطفیل، فوثب على حرام فقتله و استصرخ علیهم بنی عامر و قالوا: لا یخفر جوار أبی براء، فاستصرخ علیهم قبائل من سلیم عصیّة و رعلا و ذکوان، فنفروا معه و واسوه، و استبطأ المسلمون حراما فأقبلوا فی أثره فلقیهم
القوم فأحاطوا بهم فکاثروهم، فتقاتلوا فقتل أصحاب رسول الله (ص) و فیهم سلیم بن ملحان و الحکم بن کیسان فی سبعین رجلا، فلمّا أحاطوا بهم قالوا: اللهم إنّا لا نجد من یبلّغ رسولک منّا السلام غیرک، فأقرئه منّا السلام، فأخبره جبرئیل بذلک، فقال (ص) فعلیهم السلام. و بقی المنذر بن عمرو فقالوا: آمنّاک فأبى و أتى مصرع حرام فقاتلهم حتّى قتل، فقال رسول الله: أعنق لیموت- یعنی انّه تقدّم على الموت و هو یعرفه-. و کان معهم عمرو بن أمیّة الضمری فقتلوا جمیعا غیره، فقال عامر بن الطفیل: قد کان على أمّی نسمة فأنت حرّ عنها و جزّ ناصیته، و فقد عمرو بن أمیّة عامر بن فهیرة من بین القتلى، فسأل عنه عامر بن الطفیل فقال: قتله رجل من بنی کلاب یقال له جبّار بن سلمى لمّا طعنه. قال: فزت و الله، و رفع الى السماء علوا فأسلم جبّار بن سلمى لمّار أى من قتل عامر بن فهیرة و رفعه، و قال رسول الله: انّ الملائکة وارت جثّته و أنزل علیّین. و جاء رسول الله (ص) خبر أهل بئر معونة، و جاءه تلک اللیلة أیضا مصاب خبیب بن عدی و مرثد بن أبی مرثد و بعث محمد بن مسلمة، فقال رسول الله: هذا عمل أبی براء قد کنت لهذا کارها. و دعا رسول الله (ص) على قتلتهم بعد الرکعة من الصبح، فقال: اللهم اشدد وطأتک على مضر، اللهم علیک ببنی لحیان و عضل و القارة و زغب و رعل و ذکوان و عصیّة فانّهم عصوا الله و رسوله. و لم یجد رسول الله (ص) على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة … الخ.
ثم روى محمد بن سعد باسناده عن أنس بن مالک انّه قال: و کانوا یدعون فینا القراء، کانوا یحطبون بالنهار و یصلّون باللیل، فلمّا بلغوا بئر معونة غدروا بهم فقتلوهم، فبلغ ذلک نبی الله (ص) فقنت شهرا فی صلاة الصبح یدعو على رعل و ذکوان و عصیّة و بنی لحیان. قال: فقرأنا بهم قرآنا زمانا ثم انّ ذلک رفع أو نسی «بلّغوا عنّا قومنا إنّا لقینا ربّنا فرضی عنّا و أرضانا» انتهى.
و قال الطبری(3): انّ عامر بن الطفیل کان یقول: من الرجل منهم، لمّا قتل رأیته رفع بین
السماء و الأرض، حتّى رأیت السماء من دونه. قالوا: هو عامر بن فهیرة.
ثم روى باسناده عن رجل من بنی جبّار قال: کان جبّار فیمن حضرها یومئذ مع عامر ثم أسلم بعد ذلک. فقال: فکان یقول: ممّا دعانی الى الإسلام انّی طعنت رجلا منهم بالرمح بین کتفیه، فنظرت الى سنان الرمح حین خرج من صدره، فسمعته یقول حین طعنته: فزت و الله.
قال: قلت فی نفسی: ما فاز، ألیس قد قتلت الرجل، حتّى سألت بعد ذلک عن قوله فقالوا: الشهادة. قال: فقلت فاز لعمر الله.
الى أن قال: قال إسحاق: حدّثنی أنس بن مالک: انّ الله عزّ و جلّ أنزل فیهم قرآنا «بلّغوا عنّا قومنا أنّا قد لقینا ربّنا فرضی عنّا و رضینا عنه» ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمانا، و أنزل الله عزّ و جلّ «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُونَ. فَرِحِینَ» الآیة.
و قال الواقدی(4): خرج المنذر بدلیل له من بنی سلیم یقال له المطالب، فلمّا نزلوا علیها عسکروا بها و سرّحوا ظهرهم، و بعثوا فی سرحهم الحارث بن الصمّة و عمرو بن أمیّة، و قدّموا حرام بن ملحان بکتاب رسول الله (ص) الى عامر بن الطفیل. الى أن قال: و أقبل الحارث بن الصمّة و عمرو بن أمیّة بالسرح، و قد ارتابا بعکوف الطیر على منزلهم أو قریب منه، فجعلا یقولان: قتل و الله أصحابنا أهل نجد.
و قال الطبری(5): و کان فی سرح القوم عمرو بن امیّة الضمری و رجل من الأنصار أحد بنی عمرو بن عوف فلم ینبئها بمصاب أصحابهما إلّا الطیر تحوم على العسکر، فقالا: و الله انّ لهذه الطیر لشأنا فأقبلا لینظرا إلیه، فإذا القوم فی دمائهم و إذا الخیل التی أصابتهم واقفة، فقال الأنصاری لعمرو بن أمیّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله (ص) فنخبره الخبر. فقال الأنصاری: لکنّی ما کنت لأرغب بنفسی عن موطن قتل فیه المنذر بن عمرو، و ما کنت لتخبرنی عنه الرجال. ثم قاتل القوم حتّى قتل، و أخذوا عمرو بن أمیّة أسیرا، فلمّا أخبرهم انّه
من مضر أطلقه عامر بن الطفیل و جزّ ناصیته و أعتقه عن رقبة زعم انّها کانت على امّه، فخرج عمرو بن أمیّة حتّى إذا کان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بنی عامر حتّى نزلا معه فی ظلّ هو فیه، و کان مع العامریّین عقد من رسول الله (ص) و جوار لم یعلم به عمرو بن امیّة، و قد سألهما حین نزلا: ممّن أنتما؟ فقالا: من بنی عامر، فأمهلهما حتّى إذا ناما عدا علیهما فقتلهما و هو یرى انّه قد أصاب بهما ثورة من بنی عامر بما أصابوا من أصحاب رسول الله، فلمّا قدم عمرو بن امیّة على رسول الله أخبر الخبر، فقال رسول الله (ص): لقد قتلت قتیلین … الخ.
و قال الواقدی(6): و أخبر عمرو بن أمیّة النبی (ص) بمقتل العامریین، فقال: بئس ما صنعت، قتلت رجلین قد کان لهما منّی أمان و جوار لادینّهما، فکتب إلیه عامر بن الطفیل و بعث نفرا من أصحابه یخبره انّ رجلا من أصحابک قتل رجلین من أصحابنا و لهما منک أمان و جوار، فأخرج رسول الله (ص) دیتهما دیة حرّین مسلمین، فبعث بها إلیهم، انتهى.
1) تاریخ الطبری 2/ 546.
2) الطبقات الکبرى 2/ 51.
3) تاریخ الطبری 2/ 548.
4) المغازی 1/ 304.
5) تاریخ الطبری 2/ 547.
6) المغازی 1/ 349.