قال ابن کثیر(1): فأقام رسول الله (ص) بالأبطح کما قدّمنا یوم الأحد، و یوم الاثنین، و یوم الثلاثاء، و یوم الأربعاء، و قد حلّ الناس إلّا من ساق الهدی، و قدم فی هذا الأیّام علی ابن أبی طالب (ع) من الیمن بمن معه من المسلمین و ما معه من الأموال، و لم یعد (ص) الى الکعبة بعد ما طاف بها فلمّا أصبح (ص) یوم الخمیس صلّى بالأبطح الصبح من یومئذ و هو
یوم الترویة و یقال له یوم منى لأنّه یسار فیه إلیها.
ثم روى بإسناده عن ابن عباس قال: انّ رسول الله (ص) صلّى خمس صلوات بمنى.
ثم روى بإسناده أیضا عن ابن عباس قال انّ النبی (ص) صلّى الظهر یوم التّرویة بمنى و صلّى الغداة یوم عرفة بها.
ثم رواه عن أبی داود بإسناده عن سلیمان بن مهران الأعمش قال: صلّى رسول الله (ص) الظهر یوم الترویة و الفجر یوم عرفة بمنى.
ثم روى عن الترمذی بإسناده عن عطاء عن ابن عباس قال: صلّى بنا رسول الله (ص) بمنى الظّهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر، ثم غدا الى عرفات.
ثم روى عن الإمام بإسناده عمّن رأى النبیّ (ص) أنّه راح الى منى یوم التّرویة، و الى جانبه بلال بیده عود علیه ثوب یظلّل به رسول الله (ص)- یعنی من الحر-. ثم قال ابن کثیر: تفرّد به أحمد و قد نصّ الشّافعی على أنّه رکب من الأبطح الى منى بعد الزّوال و لکنه إنّما صلّى الظهر بمنى. ثم قال: و تقدّم من حدیث جعفر بن محمد عن أبیه (ع) عن جابر قال: فحلّ الناس کلّهم و قصّروا إلّا النبیّ (ص) و من کان معه هدی فلمّا کان یوم التّرویة توجّهوا الى منى فأهلّوا بالحج، و رکب رسول الله (ص) فصلّى بها الظّهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر، ثم مکث قلیلا حتّى طلعت الشمس، و أمر بقبّة له من شعر فضربت له بنمرة، فسار رسول الله (ص) و لا تشکّ قریش إلّا أنّه واقف عند المشعر الحرام کما کانت قریش تصنع فی الجاهلیّة، فأجاز رسول الله (ص) حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتّى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادی، فخطب الناس و قال (ص): انّ دمائکم و أموالکم حرام علیکم کحرمة یومکم هذا فی شهرکم هذا فی بلدکم هذا، ألا کلّ شیء من أمر الجاهلیّة موضوع تحت قدمی، و دماء الجاهلیّة موضوعة، و انّ أوّل دم أضع من دمائنا دم ابن ربیعة بن الحارث و کان مسترضعا فی بنی سعد فقتلته هذیل، و ربا الجاهلیّة موضوع، و أوّل ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنّه موضوع کلّه، و اتّقوا الله فی النساء فإنّکم أخذتموهنّ بأمانة الله، و استحللتم فروجهنّ بکلمة الله، و لکم علیهنّ ان لا یوطئن فرشکم أحد
تکرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غیر مبرّح، و لهنّ علیکم رزقهنّ و کسوتهنّ بالمعروف، و قد ترکت فیکم ما لن تضلّوا بعدی ان اعتصمتم به کتاب الله، و أنتم تسألون عنّی فما أنتم قائلون قالوا: نشهد أنّک قد بلغت و أدّیت و نصحت، فقال (ص) باصبعه السبابة یرفعها الى السّماء و ینکتها على الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرّات.
ثم روى عن النسائی بإسناده عن موسى بن زیاد بن جذیم بن عمرو السعدی، عن أبیه، عن جدّه قال: سمعت رسول الله (ص) یقول فی خطبته یوم عرفة فی حجّة الوداع: اعلموا انّ دمائکم و أموالکم و أعراضکم حرام علیکم کحرمة یومکم هذا، کحرمة شهرکم هذا، کحرمة بلدکم هذا. ثم قال ابن کثیر قال أبو داود: باب الخطبة على المنبر بعرفة. ثم روى بإسناده عن زید بن أسلم، عن رجل من بنی ضمرة، عن أبیه أو عمّه قال: رأیت رسول الله (ص) و هو على المنبر. ثم قال: و هذا الإسناد ضعیف، لأنّ فیه رجلا مبهما. ثم تقدّم فی حدیث جابر الطویل أنّه (ص) خطب على ناقته القصواء.
ثم روى عن أبی داود بإسناده عن سلمة بن نبیط، عن رجل من الحىّ عن أبیه نبیط أنّه رأى رسول الله (ص) واقفا بعرفة على بعیر أحمر یخطب. و هذا فیه مبهم أیضا. و لکن حدیث جابر شاهد له.
ثم روى عن أبی داود بإسناده عن خالد بن العداء بن هوذة قال: رأیت رسول الله (ص) یخطب یوم عرفة على بعیر قائما فی الرّکابین.
ثم قال ابن کثیر: و فی الصّحیحین عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله (ص) یخطب بعرفات: من لم یجد نعلین فلیلبس الخفین، و من لم یجد ازارا فلیلبس السّراویل. للمحرم. یعنی قال (ص) ذلک للمحرم.
ثم روى عن محمد بن إسحاق بإسناده عن یحیى بن عباد عن أبیه قال کان الرّجل الذی یصرخ فی الناس بقول رسول الله (ص) و هو بعرفة، ربیعة بن امیّة بن خلف قال رسول الله (ص) قل یا أیّها الناس انّ رسول الله (ص) یقول: هل تدرون أیّ بلد هذا؟ و ذکر تمام الحدیث.
ثم روى عن محمد بن إسحاق أیضا بإسناده عن عمرو بن خارجة قال بعثنی عتاب بن أسید الى رسول الله (ص) و هو واقف بعرفة فی حاجة فبلّغته، ثم وقفت تحت ناقته و انّ لعابها لیقع على رأسی فسمعته یقول: أیّها الناس انّ الله أدّى الى کلّ ذی حقّ حقّه، و أنّه لا یجوز وصیّة لوارث، و الولد للفراش و للعاهر الحجر، و من ادّعى إلى غیر أبیه أو تولّى غیر موالیه فعلیه لعنة الله و الملائکة و الناس أجمعین لا یقبل الله له صرفا و لا عدلا.
ثم قال ابن کثیر و رواه الترمذی و النسائی و ابن ماجة من حدیث قتادة، عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به. ثم قال ابن کثیر: و قال الترمذی حسن صحیح.
ثم روى عن أبی داود بإسناده عن نافع، عن ابن عمر: انّ رسول الله (ص) غدا من منى حین صلّى الصّبح صبیحة یوم عرفة فنزل بنمرة و هی منزل الإمام الذی ینزل به بعرفة، حتّى إذا کان عند صلوة الظهر راح رسول الله (ص) مهجرا فجمع بین الظّهر و العصر. و هکذا ذکر جابر فی حدیثه بعد ما أورد الخطبة المتقدّمة. قال: ثم أذّن ثم أقام فصلّى الظهر ثم أقام فصلّى العصر و لم یصلّ بینهما شیئا. ثم قال ابن کثیر: و هذا یقتضی أنّه (ص) خطب أولا ثم أقیمت الصّلوة و لم یتعرّض للخطبة الثانیة.
و قد قال الشّافعی، ثم روى بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبیه (ع) عن جابر فی حجّة الوداع قال: فراح النبیّ (ص) الى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الأولى، ثم أذّن بلال ثم أخذ النبیّ (ص) فی الخطبة الثانیة ففرغ من الخطبة و بلال من الاذان، ثم أقام بلال فصلّى الظهر، ثم أقام فصلّى العصر.
ثم روى عن البخاری بإسناده عن کریب، عن میمونة: انّ الناس شکّوا فی صیام النبیّ (ص) فأرسلت بحلاب و هو واقف فی الموقف فشرب منه و الناس ینظرون.
ثم روى عن البخاری أیضا بإسناده عن عمیر مولى ابن عباس، عن امّ الفضل بنت الحارث انّ ناسا تماروا عندها یوم عرفة فی صوم النبیّ (ص) فقال بعضهم: هو صائم، و قال بعضهم: لیس بصائم، فأرسلت إلیه بقدح لبن و هو واقف على بعیره فشربه.
و رواه مسلم من حدیث مالک أیضا. و أخرجاه من طرق اخر عن أبی النضر به.
ثم روى عن الإمام أحمد بإسناده عن ابن جریح قال قال عطاء: دعا عبد الله بن عباس الفضل بن عباس الى الطّعام یوم عرفة فقال: إنّی صائم، فقال عبد الله: لا تصم، فإنّ رسول الله (ص) قرب إلیه حلاب فیه لبن یوم عرفة فشرب منه، فلا تصم فإنّ الناس مستنّون بکم.
ثم روى عن البخاری بإسناده عن سعید بن جبیر، عن ابن عباس قال: بینا رجل واقف مع النبی (ص) بعرفة اذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال فأوقصته، فقال النبی (ص) اغسلوه بماء و سدر و کفّنوه فی ثوبین و لا تمسّوه طیبا و لا تخمروا رأسه و لا تحنّطوه، فإنّ الله یبعثه یوم القیامة ملبّیا. و رواه مسلم عن أبی الرّبیع الزهرانی عن حماد بن زید. ثم روى عن النسائی بإسناده عن عبد الرّحمن یعمر الدّیلمی قال: شهدت رسول الله (ص) بعرفة و أتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله (ص) الحج عرفة، فمن أدرک لیلة عرفة قبل طلوع الفجر من لیلة جمع فقد تم حجّه. ثم قال ابن کثیر و قد رواه بقیّة أصحاب السّنن من سفیان الثوری.
الى ان قال ابن کثیر: و قد تقدّم من روایة مسلم عن جعفر بن محمد عن أبیه عن جابر انّ رسول الله (ص) قال: وقفت ههنا، و عرفة کلّها موقف. ثم قال و زاد مالک فی موطّئه: و ارفعوا عن بطن عرفة.
ثم قال ابن کثیر فیما حفظ من دعائه (ص) و هو واقف بعرفة، و قد تقدّم أنّه (ص) أفطر یوم عرفة فدلّ على انّ الإفطار هناک أفضل من الصّیام، لما فیه من التّقوّی على الدّعاء لأنّه المقصود الأهم هناک، و لهذا وقف (ص) و هو راکب على الرّاحلة من لدن الزّوال الى ان غربت الشمس.
و قد روى أبو داود الطیالسی فی مسنده. ثم روى عنه بإسناده عن أبی هریرة عن رسول الله (ص) أنّه (ص) نهى عن صوم یوم عرفة بعرفة. الى ان قال و قد روى الإمام أحمد و الترمذی من حدیث عمرو بن شعیب، عن أبیه، عن جدّه انّ رسول الله (ص) قال: أفضل الدّعاء یوم عرفة و خیر ما قلت أنا و النبیّون من قبلی. لا إله إلّا الله وحده لا شریک له، له الملک
و له الحمد و هو على کلّ شیء قدیر.
ثم قال ابن کثیر و للإمام أحمد أیضا عن عمرو بن شعیب عن أبیه عن جدّه قال: کان أکثر دعاء النبی (ص) یوم عرفة: لا إله إلّا الله وحده لا شریک له له الملک و له الحمد و هو على کل شیء قدیر.
ثم روى عن الإمام أحمد أیضا بإسناده عن الزّبیر بن العوام قال: سمعت رسول الله (ص) و هو بعرفة یقرأ هذه الآیة «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِکَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِیزُ الْحَکِیمُ» و أنا على ذلک من الشاهدین یا رب.
ثم روى عن الطبرانی فی مناسکه بإسناده عن علی (ع) قال قال رسول الله (ص) أفضل ما قلت أنا و الأنبیاء قبلی عشیّة عرفة: لا إله إلّا الله وحده لا شریک له له الملک و له الحمد و هو على کلّ شیء قدیر.
ثم روى عن الترّمذی فی الدعوات بإسناده عن علی (ع) قال: کان أکثر ما دعا به رسول الله (ص) یوم عرفة فی الموقف: اللهم لک الحمد کالذی تقول و خیر ممّا نقول، اللهم لک صلوتی و نسکی و محیای و مماتی، و لک ربّ تراثی، أعوذ بک من عذاب القبر و وسوسة الصّدور و شتات الأمر، اللهم إنّی أعوذ بک من شرّ ما تهبّ به الرّیاح … الخ.
ثم روى عن البیهقی من طریق موسى بن عبید، عن أخیه عبد الله بن عبید عن علی (ع) قال قال رسول الله (ص): انّ أکثر دعاء من کان قبلی و دعائی یوم عرفة ان أقول: لا إله إلّا الله وحده لا شریک له له الملک و له الحمد و هو على کل شیء قدیر. اللهم اجعل فی بصری نورا و فی سمعی نورا و فی قلبی نورا، اللهم اشرح لی صدری و یسّر لی أمری، اللهم إنّی أعوذ بک من وسواس الصّدور و شتات الأمر و شرّ فتنة القبر، و شرّ ما یلج فی اللّیل، و شرّ ما یلج فی النّهار، و شرّ ما تهبّ به الرّیاح، و شرّ بوائق الدّهر … الخ.
ثم روى عن الطبرانی فی مناسکه بإسناده عن عطاء بن أبی ریاح عن ابن عباس قال: کان فیما دعا به رسول الله (ص) فی حجّة الوداع: اللهم إنّک تسمع کلامی و ترى مکانی و تعلم سرّی و علانیتی و لا یخفى علیک شیء من أمری، أنا البائس الفقیر المستغیث المستجیر الوجل
المشفق المقرّ المعترف بذنبه، أسألک مسألة المسکین، و أبتهل إلیک ابتهال الذّلیل، و أدعوک دعاء الخائف الضّریر، من خضعت لک رقبته و فاضت لک عبرته و ذلّ لک جسده و رغم لک أنفه، اللهم لا تجعلنی بدعائک ربّ شقیّا، و کن بی رؤفا رحیما، یا خیر المسئولین و یا خیر المعطین.
ثم روى عن الإمام أحمد بإسناده عن عطاء قال قال أسامة بن زید: کنت ردیف النبی (ص) بعرفات فرفع یدیه یدعو فمالت ناقته فسقط خطامها، قال: فتناول الخطام بإحدى یدیه و هو رافع یده الأخرى. ثم قال. و هکذا رواه النسائی عن یعقوب بن إبراهیم، عن هشیم.
ثم روى عن البیهقی بإسناده عن عکرمة، عن ابن عباس قال: رأیت رسول الله (ص) یدعو بعرفة و یداه الى صدره کاستطعام المسکین.
ثم روى عن أبی داود الطیالسی فی مسنده بإسناده عن عباس بن مرداس، انّ رسول الله (ص) دعا عشیّة عرفة لأمّته بالمغفرة و الرّحمة فأکثر الدّعاء فأوحى الله إلیه: إنّی قد فعلت إلّا ظلم بعضهم بعضا، و أمّا ذنوبهم فما بینی و بینهم فقد غفرتها. فقال: یا ربّ إنّک قادر على ان تثیب هذا المظلوم خیرا من مظلمته و تغفر لهذا الظالم، فلم یجبه تلک العشیّة فلمّا کان غداة المزدلفة أعاد الدّعاء فأجابه الله تعالى: قد غفرت لهم. فتبسّم رسول الله (ص) فقال له بعض أصحابه: یا رسول الله تبسّمت فی ساعة لم تکن تتبسّم فیها؟ قال تبسّمت من عدوّ الله إبلیس إنّه لمّا علم انّ الله عزّ و جلّ قد استجاب لی فی امّتی أهوى یدعو بالویل و الثّبور و یحثو التّراب على رأسه. ثم قال ابن کثیر: و رواه أبو داود فی سننه عن عیسى بن ابراهیم البرکی و أبی الولید الطیالسی کلاهما عن عبد القاهر بن السری عن ابن کنانة بن عباس بن مرداس عن أبیه عن جدّه مختصرا، و رواه ابن ماجة عن أیّوب بن محمّد الهاشمی بن عبد القاهر بن السری، عن عبد الله بن کنانة بن عباس، عن أبیه عن جدّه به مطوّلا. ثم روى عن ابن جریر فی تفسیره بإسناده عن عباس بن مرداس … الخ.
ثم روى عن الطبرانی بإسناده عن عبادة بن الصّامت قال قال رسول الله (ص) یوم عرفة:
أیّها الناس انّ الله تطوّل علیکم فی هذا الیوم فغفر لکم إلّا التبعات فیما بینکم، و وهب مسیئکم لمحسنکم و أعطى محسنکم ما سأل، فادفعوا بسم الله. فلمّا کان بجمع قال: انّ الله قد غفر لصالحکم و شفّع لصالحیکم فی طالحیکم، تنزل الرّحمة فتعمّهم ثم تفرق الرّحمة فی الأرض فتقع على کلّ تائب ممّن حفظ لسانه و یده، و إبلیس و جنوده على جبال عرفات ینظرون ما یصنع الله بهم فإذا نزلت الرّحمة دعا هو و جنوده بالویل و الثبور … الخ.
1) السیرة النبویة 4/ 337- 376.