تحرک النبیّ (صلّى الله علیه و اله) داعیا إلى الإسلام بعد أن أمره الله تعالى بالقیام و الانذار(1) ساعیا لبناء کتلة إیمانیة تکون بؤرة نور و إشعاع لهدایة المجتمع و استمر الحال هکذا حوالی ثلاث سنین مسددا بالغیب معصوما من الزلل.
و کان التحرک الرسالی هذا محفوفا بالمخاطر و الصعوبات و لکنه کان متقنا متکاملا.
و کان من اسلوب الرسول (صلّى الله علیه و اله) فی هذه المرحلة من الدعوة أن ینوّع الاختیار من حیث الانتماء القبلی و الموقع الجغرافی و العمر لأتباعه لیوضح شمولیة الرسالة و یضمن لها الانتشار فی المجتمع الى أقصى ما یمکن؛ فاستجاب له- فی بدایة البعثة- المستضعفون و الفقراء إذ کانت الرسالة الإسلامیة منطلقا نحو التسامی و الحیاة الکریمة و الأمان، کما استجاب له من الأشراف من کان ذا نفس طیّبة و عقل منفتح و رغبة ففی السلوک النزیه.
و لم یتحسّس جبابرة قریش خطورة الرسالة و حسبوا أن الأمر لا یعدو تکهّنات و تأملات لها سوابق اندثرت؛ فلم یشدّدوا على محاربتهم للرسالة للقضاء علیها فی مهدها.
و فی هذا الوقت القصیر استطاع الرسول (صلّى الله علیه و اله) أن یصوغ من النفوس التی آمنت برسالته عناصر فعالة تحمل قیم الرسالة لتنطلق بها للناس، و هم أشد حرصا على إسلامهم و أکثر یقینا بإیمانهم مستنکرین بذلک ما کان علیه آباؤهم من شرک و خلق منحرف حتى تزاید الاستعداد لدیهم لتحمل آثار الجهر بالرسالة.
و یروى أن النبیّ (صلّى الله علیه و اله) و أصحابه- فی هذه الفترة- کانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا فی الشعاب فصلّوا فرادى و مثنى، فبینما رجلان من المسلمین یصلیان فی بعض شعاب مکة اذ ظهر علیهما رجلان من المشرکین- کانا فاحشین- فناکراهما و عابا علیهما ما یصنعان ثم تضاربوا، و انصرفا(2)
و یبدو تکرر مثل هذه المواجهة مع المشرکین(3) من هنا استعان النبی (صلّى الله علیه و اله) ببعض الدور للتخفی لممارسة العبادة و الاتصال المنتظم به (صلّى الله علیه و اله) بعیدا
عن أنظار قریش فکانت دار الأرقم بن أبی الارقم(4) خیر ملجأ للمسلمین حینئذ.
1) کما ورد فی مطلع سورة المدّثر.
2) أنساب الاشراف: 1/ 117، السیرة الحلبیة: 1/ 456.
3) السیرة النبویة: 1/ 263 و 282.
4) السیرة الحلبیة: 1/ 283، اسد الغابة: 4/ 44.