بنزول الأمر الإلهی بالقتال انتقلت الرسالة الإسلامیة إلى مرحلة جدیدة من الصراع مع قوى الشرک و الضلالة، و تحرکت فی نفوس المهاجرین الرغبة الجادة لاسترداد حقوقهم المسلوبة من قبل و التی استلبتها قریش منهم لا لشیء إلّا لأنهم آمنوا بالله وحده.
و رصد النبیّ (صلّى الله علیه و اله) قافلة قریش التی فاتته فی طریق ذهابها إلى الشام فی غزوة ذات العشیرة و خرج فی عدّة خفیفة و عدد قلیل یرتجی ملاقاة قافلة ضمّت أسهما تجاریة ضخمة لأغلب المکیین. و لم تکن حرکة النبی (صلّى الله علیه و اله) سرّیة فقد بلغ خبرها إلى مکة و إلى أبی سفیان قائد القافلة فتحوّل فی مسیره إلى اتجاه آخر حیث لا یدرکه المسلمون … و خرجت قریش فزعة تطلب مالها تلهبها مشاعر الحقد و الحسد للمسلمین، على أن عددا من کبارها نظر إلى الأمر بتدبّر و رویّة و آثر عدم الخروج لملاقاة المسلمین و خصوصا بعد أن ورد خبر نجاة أبی سفیان بالقافلة التجاریّة.
خرجت قریش بعدد یناهز الألف فی عدّة ثقیلة یدفعها تجبّرها، و الاغترار بمنزلتها بین العرب و مع جموع اخرى هبّت لنصرتها مصرّة على لقاء المسلمین
أو لتثبت أنها لا تخذل کی لا یتعرض لها المسلمون ثانیة، فقریش ما ذلّت مذ عزّت، کما أعرب عن ذلک بعض أصحاب الرسول (صلّى الله علیه و اله) حین أراد مواجهة قریش لأوّل مرة(1)
نزلت قریش و صفّت صفوفها للقتال على مقربة من (ماء بدر) حیث سبقهم المسلمون فی ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و هیّأ الله لرسوله (صلّى الله علیه و اله) و للمسلمین مقدمات النصر و أسبابه فسهّل لهم الوصول إلى موقع القتال و ألقى علیهم الأمن و الاطمئنان و وعدهم بالنصر على أعدائهم و إظهار دین الحق(2)
و بالرغم من أن المسلمین لم یتوقعوا خروج قریش لملاقاتهم و لکن بعد أن فاتتهم القافلة و تحول الهدف إلى القتال أراد النبیّ (صلّى الله علیه و اله) أن یختبر نوایا المهاجرین و الأنصار فوقف و قال: «أشیروا علیّ أیها الناس».
فقام بعض المهاجرین و تکلّم بکلام یدل على الخوف و الجبن عن مواجهة العدو ثم قام المقداد بن عمرو فقال: یا رسول الله إمض لأمر الله فنحن معک، و الله لا نقول لک کما قالت بنو إسرائیل لنبیها: «فاذهب أنت و ربک فقاتلا إنا هاهنا قاعدون»، و لکن اذهب أنت و ربّک فقاتلا إنا معکما مقاتلون و الذی بعثک بالحق لو سرت بنا إلى برک الغماد(3) لسرنا معک.
فقال له رسول الله (صلّى الله علیه و اله) خیرا. ثم کرر رسول الله (صلّى الله علیه و اله) قوله: أشیروا علیّ أیها الناس، یرید بذلک أن یسمع رأی الأنصار إذ کانوا قد بایعوه على الدفاع و الذبّ عنه بالنفس و النفیس فی العقبة قبل الهجرة.
فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجیب عن الأنصار، کأنک یا رسول الله تریدنا؟
قال (صلّى الله علیه و اله): أجل. قال: إنّا قد آمنا بک و صدقّناک و شهدنا أن کل ما جئت به حق.
و أعطیناک مواثیقنا و عهودنا على السمع و الطاعة، فامض یا نبی الله، فو الذی بعثک بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معک ما بقی منا رجل، و ما نکره أن یلقانا عدونا غدا؛ إنا لصبّر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ الله یریک منّا ما تقرّ به عینک.
عندها قال رسول الله (صلّى الله علیه و اله): «سیروا على برکة الله فإن الله قد وعدنی إحدى الطائفتین و الله لکأنی أنظر إلى مصارع القوم»(4)
و فی کل موقف کان رسول الله (صلّى الله علیه و اله) یدعو و یسأل الله النصر بعد أن تهیّأ المسلمون للحرب و قاموا بالإعدادات اللازمة بدءا باختیار الموقع المناسب و إعداد الماء و اتّخاذ التحوّطات لملاقاة العدو، و النبی القائد (صلّى الله علیه و اله) کان دائما هو الطاقة المتدفقة التی تبعث فى نفوسهم الصبر و الجلد، و الاطمئنان کما کان یثیر الحماس فیهم و یخبرهم بالمدد الإلهی(5)
و احتفّ المسلمون حول النبی و هم یظهرون أروع صور الاستعداد للتضحیة من أجل العقیدة و یفکّرون فی خطة بدیلة لودارت الحرب على غیر ما یحبون فأعدّوا عریشا کمقرّ لقیادة النبی (صلّى الله علیه و اله) لیشرف من خلاله على المعرکة.
و خرجت سریة الاستطلاع لمعرفة أحوال قریش و عادوا بالأخبار الّلازمة للنبی (صلّى الله علیه و اله) فقدّر عددهم ما بین (950- 1000) مقاتل(6)
وقف رسول الله (صلّى الله علیه و اله) یصفّ المسلمین صفوفا و أعطى رایته الکبرى لعلی ابن أبی طالب (علیه السّلام) و أرسل إلى قریش طالبا منها أن ترجع، فهو یکره قتالها،
فدبّ الخلاف بین صفوف المشرکین بین راغب فی السلم و مصرّ على العدوان(7)
و أمر الرسول (صلّى الله علیه و اله) أن لا یبدأ المسلمون القتال، و وقف یدعو الله قائلا:
«اللهم إن تهلک هذه العصابة فلن تعبد بعد الیوم».
و کما هو المعتاد فی کل الحروب القدیمة برز من المشرکین عتبة بن ربیعة و أخوه شیبة و ابنه الولید یطلبون نظراء لهم من قریش لیبارزوهم. فقال النبی (صلّى الله علیه و اله) لعبیدة بن الحارث و حمزة بن عبد المطلب و علی بن أبی طالب: «یا بنی هاشم قوموا فقاتلوا بحقکم الذی بعث به نبیکم إذ جاؤوا بباطلهم لیطفئوا نور الله»(8)
فقتل من برز من قریش و التحم الجیشان و رسول الله (صلّى الله علیه و اله) یبعث الحماس فی نفوس المسلمین. ثم أخذ النبیّ (صلّى الله علیه و اله) کفا من الحصى و رمى بها على قریش و قال: شاهت الوجوه، فلم یبق منهم أحد إلّا اشتغل بفرک عینیه(9) فکانت هزیمة قریش و وقف رسول الله (صلّى الله علیه و اله) على قلیب بدر بعد طرح جثث المشرکین فیه، و ناداهم بأسمائهم و قال: هل وجدتم ما وعدکم ربکم حقا؟ فإنی وجدت ما وعدنی ربی حقا. فقال المسلمون: یا رسول الله أتنادی قوما قد ماتوا؟ فقال (صلّى الله علیه و اله): إنهم لیسمعون کما تسمعون و لکن منعوا من الجواب(10)
1) راجع المغازی للواقدی: 1/ 48، السیرة الحلبیة: 2/ 160، و بحار الأنوار: 19/ 217.
2) الانفال (8): 7- 16.
3) برک الغماد: موضع وراء مکة مما یلی البحر.
4) المغازی: 1/ 48- 49.
5) الانفال (8): 65.
6) راجع المغازی: 1/ 50.
7) المغازی: 1/ 61، بحار الانوار: 19/ 252.
8) المغازی: 1/ 68.
9) إعلام الورى: 1/ 169، السیرة النبویة: 1/ 628.
10) إعلام الورى: 1/ 171، السیرة النبویة: 1/ 638.