قال محمد بن سعد(1): ثم غزوة بنی لحیان، و کانوا بناحیة عسفان، فی شهر ربیع الأول سنة ست من مهاجره (ص).
قالوا: وجد رسول الله على عاصم بن ثابت و أصحابه وجدا شدیدا، فأظهر انّه یرید الشام، و عسکر لغرّة هلال شهر ربیع الأول فی مائتی رجل و معهم عشرون فرسا، و استخلف على المدینة عبد الله بن ام مکتوم، ثم أسرع السیر حتّى انتهى الى بطن غران و بینها و بین عسفان خمسة أمیال حیث کان مصاب أصحابه (ص)، فترحّم علیهم و دعا لهم، فسمعت بهم بنو لحیان فهربوا فی رؤوس الجبال فلم یقدروا على أحد، ثم خرج حتّى أتى عسفان … الخ.
و قال الطبری و ابن الأثیر و ابن هشام و العبارة لأبن الأثیر(2)، قال: خرج رسول الله الى بنی لحیان یطلب بأصحاب الرجیع خبیب بن عدی و أصحابه، و أظهر انّه یرید الشام لیصیب من القوم غرّة، و أغذّ السیر حتّى نزل على غران منازل بنی لحیان و هی بین امج و عسفان، فوجدهم قد حذروا و تمنعوا فی رؤوس الجبال، فلمّا أخطأه ما أراد منهم خرج فی مائتی راکب حتّى نزل بعسفان تخویفا لأهل مکة، و أرسل فارسین من أصحابه حتّى بلغا کراع الغمیم … الخ.
و قال ابن هشام(3): فکان جابر بن عبد الله یقول: سمعت رسول الله (ص) حین وجّه راجعا: آئبون تائبون إن شاء الله لربّنا حامدون، أعوذ بالله من و عثاء السفر و کآبة المنقلب و سوء المنظر فی الأهل و المال. الى أن قال: ثم قدم رسول الله (ص) المدینة فلم یقم بها إلّا لیالی قلائل حتّى أغار عیینة بن حصن بن حذیفة فی خیل من غطفان على لقاح رسول الله (ص) بالغابة، و فیها رجل من بنی غفار و امرأة له، فقتلوا الرجل و احتملوا المرأة فی اللقاح. (النوق القریبة العهد من الولادة)، انتهى.
قال محمد بن سعد(4): ثم غزوة رسول الله (ص) الغابة، و هی على برید من المدینة طریق الشام فی شهر ربیع الأول سنة ست من مهاجره (ص).
قالوا: کانت لقاح رسول الله (ص) و هی عشرون لقحة ترعى بالغابة، و کان أبوذر فیها،
فأغار علیهم عیینة بن حصن لیلة الأربعاء فی أربعین فارسا فاستاقوها و قتلوا ابن أبی ذر، و جاء الصریخ فنادى: الفزع الفزع، فنودی: یا خیل الله ارکبی. و کان أول ما نودی بها و رکب رسول الله (ص) فخرج غداة الأربعاء فی الحدید مقنّعا، فوقف فکان أول من أقبل إلیه المقداد بن عمرو و علیه الدرع و المغفر شاهرا سیفه، فعقد له رسول الله (ص) لواء فی رمحه و قال: امض حتّى تلحقک الخیول انّا على أثرک، و استخلف رسول الله (ص) على المدینة عبد الله بن ام مکتوم، و خلّف سعد بن عبادة فی ثلاثمائة من قومه یحرسون المدینة. قال المقداد: فخرجت فأدرکت أخریات العدوّ، و قد قتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله (ص) فرسه و سلاحه، و قتل عکّاشة بن محصن أثار بن عمرو بن أثار، و قتل المقداد بن عمرو حبیب بن عیینة بن حصن و فرقة بن مالک، و قتل من المسلمین محرز بن نضلة قتله مسعدة، و أدرک سلمة بن الأکوع القوم و هو على رجلیه، فجعل یرامیهم بالنبل و یقول:
خذها و أنا ابن الأکوع
الیوم یوم الرضع
حتّى انتهى بهم الى ذی قرد، و هی ناحیة خیبر ممّا یلی المستناخ.
قال سلمة: فلحقنا رسول الله (ص) و الناس و الخیول عشاء، فقلت: یا رسول الله انّ القوم عطاش فلو بعثتنی فی مائة رجل استنقذت ما بأیدهم من السرح و أخذت بأعناق القوم. فقال النبی (ص): ملکت فاسجح. (أی قدرت فسهّل) ثم قال: انّهم الآن لیقرون فی غطفان، و ذهب الصریخ الى عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخیل تأتی و الرجال على أقدامهم و على الإبل حتّى انتهوا الى رسول الله (ص) بذی قرد، فاستنقذوا عشر لقائح و أفلت القوم بما بقی و هی عشرة، و صلّى رسول الله (ص) بذی قرد صلاة الخوف، و أقام به یوما و لیلة یتحسّس الخبر، و قسّم فی کل مائة من أصحابه جزورا ینحرونها و کانوا خمسمائة و یقال سبعمائة، و بعث إلیه سعد بن عبادة بأحمال تمر و بعشر جزائر، فوافت رسول الله بذی قرد … الخ.
و قال الحلبی(5): غزوة ذی قرد بفتح القاف و الراء و قیل بضمّها، أی بضمّ الأول و فتح الثانی، اسم ماء. و القرد فی الأصل الصوف الردیء، و یقال لها غزوة الغابة، و الغابة الشجر الملتف. و لمّا قدم رسول الله (ص) المدینة من غزوة بنی لحیان لم یقم بها إلّا لیالی قلائل حتّى أغار عیینة بن حصن فی خیل غطفان على لقاح رسول الله بالغابة، و کانت اللقاح عشرین لقحة، و هی ذات اللبن القریبة من الولادة لها ثلاثة أشهر ثم هی لبون، و فیها رجل من بنی غفار هو ولد أبی ذر الغفاری و زوجة لأبی ذر، و کان راعیها یرجع بلبنها کل لیلة عند المغرب الى المدینة، فإنّ المسافة بینها و بین المدینة یوم أو نحو یوم، فقتلوا الرجل و احتملوا المرأة مع اللقاح.
ثم نقل الحلبی قولا بأن أباذر استأذن رسول الله (ص) أن یکون فی اللقاح، فقال له رسول الله: لا تأمن عیینة بن حصن و ذویه أن یغیروا علیک، فألحّ علیه. فقال له رسول الله لکأنی بک قد قتل ابنک و أخذت امرأتک و جئت تتوکّأ على عصاک، فکان أبوذر یقول: عجبا لی و رسول الله یقول: لکّأنی بک و أنا ألحّ علیه، فکان و الله ما قال رسول الله.
و قال العلّامة محمد رضا: و کانت نتیجة هذه الغزوة انّهم أدرکوا العدوّ فهزموه و قتلوا رؤساءه و استنقذوا اللقاح، و قیل بعضها، و لم یقتل من المسلمین إلّا رجل واحد و هو محرز ابن نضلة، و سار رسول الله (ص) حتّى بلغ ذا قرد فی اتجاه خیبر، فالتجأ العدوّ الى بنی غطفان، و قد أبلى فی هذه الغزوة سلمة بن الأکوع بلاء حسنا و کان رامیا … الخ.
و قال ابن الأثیر(2): و الروایة صحیحة عن سلمة انّها کانت بعد مقدمه (ص) المدینة منصرفا من الحدیبیة و بین الوقعتین تفاوت، قال سلمة بن الأکوع: أقبلنا مع النبی (ص) الى المدینة بعد صلح الحدیبیة، فبعث رسول الله بظهره- أی إبله- مع رباح غلامه، و خرجت معه بفرس طلحة بن عبید الله، فلمّا أصبحنا إذا عبد الرحمن بن عیینة بن حصن الفزاری قد أغار على ظهر رسول الله (ص) فاستاقه أجمع و قتل راعیه. قلت: یا رباح هذه الفرس فأبلغها
طلحة و أخبر النبی (ص) انّ المشرکین قد أغاروا على سرحه- أی على إبله- ثم استقبلت الأکمة فنادیت ثلاث أصوات: یا صباحاه. ثم خرجت فی آثار القوم أرمیهم بالنبل و أرتجز و أقول:
خذها و أنا ابن الأکوع
الیوم یوم الرضع
قال: فو الله ما زلت أرمیهم و أعقر بهم، فاذا خرج إلیّ فارس قعدت فی أصل شجرة فرمیته فعقرت به، و إذا دخلوا فی مضایق الجبل رمیتهم بالحجارة من فوقهم، فما زلت کذلک حتّى ما ترکت من ظهر رسول الله (ص) بعیرا إلّا جعلته وراء ظهری، و خلّوا بینی و بینه و ألقوا أکثر من ثلاثین رمحا و ثلاثین بردة یستخفون بها لا یلقون شیئا إلّا جعلت علیه أمارة- أی علامة- حتّى تعرفه أصحاب رسول الله (ص) … الخ.
و روى محمد بن سعد و ابن کثیر عن سلمة بن الأکوع انّه قال: ثم انّی خرجت فی أثر القوم حتّى ما أرى من غبار صحابة النبی (ص) شیئا. الى أن قال: و إذا بنبی الله فی خمسمائة- أی من أصحابه- و إذا بلال قد نحر جزورا ممّا خلّفت فهو یشوی لرسول الله من کبدها و سنامها، فأتیت رسول الله (ص) فقلت: یا رسول الله خلّنی فأنتخب من أصحابک مائة فآخذ على الکفار بالعشوة فلا یبقى منهم مخبر إلّا قتلته. فقال: أکنت فاعلا ذلک یا سلمة. قال: قلت نعم و الذی أکرمک، فضحک رسول الله حتّى رأیت نواجذه فی ضوء النار، ثم قال: انّهم یقرون الآن بأرض غطفان، فجاء رجل من غطفان فقال: مرّوا على فلان الغطفانی فنحر لهم جزورا، فلمّا أخذوا یکشطون جلدها رأوا غبرة فترکوها و خرجوا هرابا، فلمّا أصبحنا قال رسول الله (ص): خیر فرساننا أبو قتادة و خیر رجالتنا سلمة. فأعطانی رسول الله (ص) سهم الفارس و الراجل جمیعا، ثم أردفنی وراءه على العضباء راجعین الى المدینة … الخ.
و قال ابن هشام: فقسّم رسول الله فی أصحابه فی کل مائة جزورا، و أقاموا علیها، ثم رجع رسول الله (ص) قافلا حتّى قدم المدینة، و أقبلت امرأة الغفاری على ناقة من إبل رسول الله (ص) حتّى قدمت علیه فأخبرته الخبر، فلمّا فرغت قالت: یا رسول الله انّی قد نذرت للّه أن أنحرها ان نجّانی الله علیها. قال: فتبسّم رسول الله (ص) ثم قال: بئس ما جزیتها أن حملک
الله علیها و نجّاک بها ثم تنحرینها، انّه لا نذر فی معصیة الله و لا فیما لا تملکین، انّما هی ناقة من إبلی، فارجعی الى أهلک على برکة الله.
ثم قال ابن هشام: و کان ممّا قیل من الشعر فی یوم ذی قرد قول حسّان بن ثابت:
لو لا الذی لاقت و مسّ نسورها
بجنوب رایة أمس فی التقواد
الى أن قال:
کنّا ثمانیة و کانوا جحفلا
لجبا فشکّوا بالرماح بداد
کنّا من القوم الذین یلونهم
و یقدّمون عنان کل جواد
کلّا و ربّ الراقصات الى منى
یقطعن عرض محارم الأطواد
حتّى نبیل الخیل فی عرصتکم
و نؤب بالملکات و الأولاد
1) الطبقات الکبرى 2/ 78.
2) الکامل 2/ 188.
3) السیرة النبویة 3/ 293.
4) الطبقات الکبرى 2/ 80.
5) السیرة النبویة 3/ 3.