بجهود صادقة و بحنکة کبرى و شجاعة فائقة و تسدید إلهی ارتقى النبی (صلّى الله علیه و اله) بالمسلمین سلّم الوعی الرسالی و الثبات و الخیر و زرع فیهم روح الصبر و التواصل .. و انطلق (صلّى الله علیه و اله) برسالته السماویة إلى العالم الإنسانی خارج الجزیرة العربیة من خلال کتبه و رسله الى زعماء القوى المجاورة.
و توقع النبی (صلّى الله علیه و اله) أن تکون ردود الفعل مختلفة فقد یکون بعضها هجوما عسکریا یقصد المدینة مستعینا بما فیها من بقیة جیوب المنافقین و الیهود و هم الذین حفل تأریخهم بالغدر و الخیانة.
و کانت خیبر تمثّل حصنا قویا و مرکزا کبیرا للیهود و لهذا قرر النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یقضی على هذه القوة المتبقّیة، فلم یلبث بعد عودته من الحدیبیة إلّا أیاما قلائل حتى جهّز جیشا بلغ تعداده ألفا و ستمائة من المسلمین مؤکدا لهم أن لا یخرجوا فی ابتغاء الغنیمة و قال (صلّى الله علیه و اله): «لا یخرجنّ معنا إلّا راغب فی الجهاد»(2)
و اتّبع النبی (صلّى الله علیه و اله) اسلوبا یوهم حلفاء الیهود و یمنعهم عن المبادرة لنصرتهم؛ تجنبا لمزید من القتال.
فباغتت قوات المسلمین حصون الیهود یتقدمها علی بن أبی طالب (علیه السّلام) حاملا رایة رسول الله (صلّى الله علیه و اله).
و امتنعت الیهود فی حصونهم المنیعة بخطة محکمة کانوا قد اتّبعوها، ثم دارت مناوشات متعددة تمکّن المسلمون خلالها من احتلال عدة مواقع مهمة.
على أن القتال اشتدّ و طالت مدّة الحصار و عانى المسلمون من قسوة الجوع حتى أنهم أکلوا طعاما غیر مستساغ.
و أعطى رسول الله (صلّى الله علیه و اله) رایته الى عدد من الصحابة لیتم الفتح على أیدیهم فلم یأتوا إلّا بالفرار و الفشل. و لمّا بلغ الجهد بالمسلمین قال النبی (صلّى الله علیه و اله): «لأعطین الرایة غدا رجلا یحب الله و رسوله و یحبه الله و رسوله کرّار غیر فرّار لا یرجع حتى یفتح الله على یدیه»(3)
و دعا فی الیوم التالی علیا و أعطاه الرایة فتمّ الفتح على یدیه و سرّ المسلمون و النبی (صلّى الله علیه و اله) جمیعا، و صالح رسول الله (صلّى الله علیه و اله) البقیة الباقیة من الیهود بعد استسلامهم على نصف ثمار مزارعهم التی أصبحت ملکا للمسلمین، و لم یعاملهم کما عامل بنی النضیر و بنی القینقاع و بنی قریظة؛ إذ لم تعد قوة الیهود الباقیة ذات أثر مهم فی المدینة.
1) وقعت هذه الغزوة فی شهر جمادى الآخرة من السنة السابعة للهجرة، راجع الطبقات الکبرى: 2/ 77.
2) الطبقات الکبرى: 2/ 106.
3) السیرة النبویة: 2/ 337. صحیح مسلم 15/ 176- 177 و فضائل الصحابة: 2/ 603 و مسند الإمام أحمد: 3/ 384 و المواهب اللدنیّة: 1/ 284، و الاستیعاب: 3/ 203، کنز العمال: 13/ 123.