أصبح محمد (صلّى الله علیه و اله) الشغل الشاغل لجدّه عبد المطلب الذی فقد ابنه عبد الله- و هو أعزّ أبنائه- فی وقت مبکّر جدا. من هنا أوکل جدّه رضاعه إلى «ثویبة» و هی جاریة لأبی لهب کی یتسنى لهم إرساله إلى بادیة بنی سعد لیرتضع هناک و ینشأ فی بیئة نقیّة بعیدا عن الأوبئة التی کانت تهدد الاطفال فی مکة و یترعرع بین أبناء البادیة کما هی عادة أشراف مکة فی إعطاء أطفالهم الرضّع الى المراضع و کانت مراضع قبیلة بنی سعد من المشهورات بهذا الأمر، و کانت تسکن حوالی مکة و نواحی الحرم و کانت نساؤهم یأتین إلى مکة فی موسم خاص من کل عام یلتمسن الرضعاء خصوصا عام ولادة النبی (صلّى الله علیه و اله) حیث کانت سنة جدب و قحط فکنّ بحاجة إلى مساعدة أشراف مکة.
و زعم بعض المؤرخین أنه لم تقبل أیة واحدة من تلک المراضع أن تأخذ «محمدا» بسبب یتمه، و أوشکت قافلة المراضع أن ترجع و مع کل واحدة رضیع إلّا حلیمة بنت أبی ذؤیب السعدیة فقد أعرضت عن النبی (صلّى الله علیه و اله) أوّل الأمر کغیرها من المرضعات و حین لم تجد رضیعا قالت لزوجها: و الله لأذهبن إلى ذلک الیتیم فلآخذنه. و رجح لها زوجها ذلک فرجعت إلیه و احتضنته و الأمل یملأ نفسها
فی أن تجد بسببه الخیر و البرکة(1)
و یردّ هذا الزعم مکانة البیت الهاشمی الرفیعة و شخصیة جدّه الذی عرف بالجود و الإحسان و مساعدة المحتاجین و المحرومین.
على أن بعض المؤرخین قد ذکر أن أباه قد توفی بعد ولادته بعدة أشهر(2)
کما روی أنّه (صلّى الله علیه و اله) لم یقبل إلّا ثدی «حلیمة»(3)
قالت حلیمة: استقبلنی عبد المطلب فقال: من أنت؟ فقلت: أنا امرأة من بنی سعد. قال ما اسمک؟ قلت: حلیمة. فتبسم عبد المطّلب و قال: بخ بخ سعد و حلم خصلتان فیهما خیر الدهر و عزّ الأبد(4)
و لم یخب ظنّ حلیمة فی نیل البرکة و زیادة الخیر بأخذ یتیم عبد المطلب فقد روی أن ثدی حلیمة کان خالیا من اللبن فلما ارتضع النبی (صلّى الله علیه و اله) منه امتلأ و درّ لبنا.
و تقول حلیمة: عند ما أخذنا رسول الله (صلّى الله علیه و اله) عرفنا الخیر و الزیادة فی معاشنا و ریاشنا حتى أثرینا بعد الجدب و الجهد(5)
و أمضى ولید «عبد المطلب» فی أحضان حلیمة و زوجها فی مرابع بنی سعد ما یقارب خمس سنوات رجعت به خلالها إلى أهله عند فطامه بعد أن أتم السنتین على کره منها؛ لما وجدت فیه من السعادة و الخیر، کما أن أمّه أرادت أن یشتد عود ابنها بعیدا عن مکة، خوفا علیه من الأمراض فرجعت به مسرورة.
و روی أنها جاءت به ثانیة الى مکة خوفا علیه من أیادی السوء عند ما
شاهدت جماعة من نصارى الحبشة القادمین الى الحجاز قد أصرّوا على أخذه معهم إلى الحبشة لأنهم وجدوا فیه علائم النبیّ الموعود، لینالوا بذلک شرف احتضانه و بلوغ المجد باتّباعه(6)
1) السیرة الحلبیة: 1/ 146.
2) الصحیح من سیرة النبی الأعظم (صلّى الله علیه و اله): 1/ 81، السیرة الحلبیة: 1/ 81.
3) بحار الانوار: 15/ 342.
4) السیرة الحلبیة: 1/ 147.
5) بحار الانوار: 15/ 345، المناقب لابن شهرآشوب: 1/ 24، و راجع السیرة الحلبیة: 1/ 149.
6) السیرة النبویة: 1/ 167، بحار الانوار: 15/ 401، السیرة الحلبیة: 1/ 155.