أشار المؤرخون إلى ظاهرة الاستسقاء برسول الله (صلّى الله علیه و اله) التی حدثت أکثر من مرة فی حیاته، حین کان رضیعا و حین کان غلاما فی حیاة جدّه و عمه أبی طالب. فالمرة الاولى: لمّا أصاب أهل مکّة من الجدب العظیم، و أمسک السحاب عنهم سنتین، أمر عبد المطلب ابنه أبا طالب أن یحضر حفیده محمدا (صلّى الله علیه و اله) فأحضره- و هو رضیع فی قماط- فوضعه على یدیه و استقبل الکعبة و قدّمه إلى السماء، و قال: یا ربّ بحق هذا الغلام، و جعل یکرّر قوله و یدعو: اسقنا غیثا مغیثا دائما هطلا، فلم یلبث ساعة حتى أطبقت الغیوم وجه السماء و هطل المطر منهمرا حتى خافوا من شدته على المسجد أن ینهدم(1)
و تکرر الاستسقاء ثانیا بعد مدة و کان النبی (صلّى الله علیه و اله) فی هذه المرة غلاما حین خرج به عبد المطلب الى جبل أبی قبیس و معه وجوه قریش یرجون الاستجابة ببرکة النبیّ (صلّى الله علیه و اله)، و قد أشار أبو طالب إلى هذه الواقعة بقصیدة أولها:
أبونا شفیع الناس حین سقوا به
من الغیث رجاس العشیر بکور
و نحن- سنین المحل- قام شفیعنا
بمکّة یدعو و المیاه تغور(2)
و نقل المؤرّخون أن قریشا طلبت من أبی طالب أن یستسقی لهم فخرج
أبو طالب الى المسجد الحرام و بیده النبی (صلّى الله علیه و اله)- و هو غلام- کأنه شمس دجى تجلّت عنها غمامة- فدعا الله بالنبی (صلّى الله علیه و اله) فأقبلت السحاب فی السماء و هطل المطر فسالت به الأودیة و سرّ الجمیع و قد ذکر أبو طالب هذه الکرامة أیضا عند ما تمادت قریش فی عدائها للنبیّ (صلّى الله علیه و اله) و رسالته المبارکة فقال:
و أبیض یستسقى الغمام بوجهه
ربیع الیتامى عصمة للأرامل
تلوذ به الهلاک من آل هاشم
فهم عنده فی نعمة و فواضل(3)
و کلّ هذا یعرب لنا عن توحید کفیلی رسول الله (صلّى الله علیه و اله) الخالص و إیمانهما بالله تعالى، و لو لم یکن لهما إلّا هذان الموقفان لکفاهما فخرا و اعتزازا. و هذا یدل أیضا على أن رسول الله (صلّى الله علیه و اله) قد نشأ فی بیت کانت الدیانة السائدة فیه هی الحنیفیة و توحید الله تعالى.
1) الملل و النحل: 2/ 248، و راجع السیرة الحلبیة: 1/ 182- 183.
2) السیرة الحلبیة: 1/ 331.
3) السیرة الحلبیة: 1/ 190، البدایة و النهایة: 3/ 52، بحار الأنوار: 8/ 2.