کان لا بد لمثل شخصیة محمد (صلّى الله علیه و اله) التى فاقت کلّ شخصیّة من الاقتران بامرأة تناسبه و تتجاوب مع عظیم أهدافه و قیمه تواصل معه رحلة الجهاد و العمل المضنیة و تصبر على متاعبه و مصاعبه، و لم یکن یومذاک امرأة تصلح لمحمد (صلّى الله علیه و اله) و لهذه المهمة سوى خدیجة، و شاء الله ذلک فاتجه قلب خدیجة بکلّ عواطفه نحو محمد (صلّى الله علیه و اله) و تعلق بشخصه الکریم. و لقد کانت خدیجة (رضی الله عنها) من خیرة نساء قریش شرفا و أکثرهن مالا و أحسنهن جمالا، و کانت تدعى فی الجاهلیة ب «الطاهرة» و «سیدة قریش». و کان کل رجال قومها حریصین على الاقتران بها.
و قد خطبها عظماء قریش و بذلوا لها الأموال، فرفضتهم جمیعا(1) لما کانت تملک من عقل راجح یزن الأمور، و لکنّها اختارت محمدا (صلّى الله علیه و اله) لما عرفت فیه من النبل و الأخلاق الکریمة و السجایا الفاضلة و القیم العالیة. فطلبت النزول فی ساحة عظمته، و عرضت نفسها علیه.
و تظافرت النصوص التأریخیة على أنّها هی التی أبدت أوّلا رغبتها فی الاقتران به، فذهب أبو طالب فی أهل بیته، و نفر من قریش لخطبتها من ولیّها آنذاک و هو عمها عمرو بن أسد(2) و کان ذلک قبل بعثة النبیّ (صلّى الله علیه و اله) بخمس عشرة سنة على المشهور.
و کان مما قاله أبو طالب فی خطبته: «الحمد لربّ هذا البیت، الذی جعلنا من زرع إبراهیم و ذریة إسماعیل و أنزلنا حرما آمنا، و جعلنا الحکّام على الناس، و بارک لنا فی بلدنا الذی نحن فیه … ثمّ إن ابن أخی هذا ممن لا یوزن برجل من قریش إلّا رجح به و لا یقاس به رجل إلّا عظم عنه، و لا عدل له فی الخلق و إن کان مقلّا فی المال؛ فإن المال رفد جار، و ظل زائل، و له فی خدیجة رغبة و لها فیه رغبة، و قد جئناک لنخطبها إلیک، برضاها و أمرها و المهر علیّ فی مالی الذی سألتموه عاجله و آجله … و له و ربّ هذا البیت حظّ عظیم، و دین شائع و رأی کامل»(3)
لکن خدیجة (رضی الله عنها) عادت، فضمنت المهر فی مالها .. فقال البعض: یا عجبا! المهر على النساء للرجال فغضب أبو طالب، و قال: «إذا کانوا مثل ابن أخی هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان و أعظم المهر، و إن کانوا أمثالکم لم یزوجوا إلّا بالمهر الغالی».
و تفید بعض المصادر أن رسول الله (صلّى الله علیه و اله) نفسه قد أمهرها، و لا مانع من ذلک حینما یکون قد أمهرها بواسطة أبی طالب، و من خطبة أبی طالب یمکننا أن نستشف علو مکانة الرسول (صلّى الله علیه و اله) فی قلوب الناس، و ما کان یتمتع به بنو هاشم من شرف و سؤدد.
1) بحار الأنوار: 16/ 22.
2) السیرة الحلبیة: 1/ 137.
3) الکافی: 5/ 374، بحار الانوار: 16/ 5 نقلا عن الکشاف و ربیع الابرار، و راجع أیضا السیرة الحلبیة: 1/ 139، تاریخ الیعقوبی: 2/ 20، الأوائل لأبی هلال: 1/ 162.
