لقد کانت القوّة هی التی تحکم الناس و تسودهم، و فی هذا الظرف تحرّک
النبی (صلّى الله علیه و اله) و المسلمون- بعد الاستقرار النسبی فی المدینة- لیؤکّد لکل القوى المؤثرة فی الجزیرة بل و خارجها- کالروم و فارس- إصراره على نشر الرسالة الإسلامیة و بناء الحضارة وفق تعالیم السماء، و کان للمسلمین من أدوات البناء ما لم یملکه غیرهم، فهم أصحاب عقیدة و فکر و طلّاب حقّ و عدل، و مشرّعی سلام و أمان، و أهل سیف و قتال.
و قد توقع رسول الله (صلّى الله علیه و اله) أنّ قریشا و من نصب له العداء سیلجأون لمحاولة استئصال المسلمین و لو بعد حین فکان طلبه من الأنصار فی بیعة العقبة الثانیة النصرة و القتال کما أن قریشا هی التی تمادت فی التعدی و الظلم بل و خرجت تتتبّع النبیّ (صلّى الله علیه و اله) و المسلمین للقضاء علیهم، و فی مکة قد صادرت الأملاک و نهبت البیوت. و کانت الرغبة لدى النبیّ (صلّى الله علیه و اله) و المسلمین- المهاجرین خصوصا- أن تدخل قریش فی الإسلام طواعیة أو أن لا تمضی فی غیّها على أقل تقدیر.
من هنا بدأ النبیّ (صلّى الله علیه و اله) یبعث (السرایا) و هی عبارة عن مجامیع صغیرة تتحرک لتعلن عن وجودها و عدم استسلامها. و إذا نظرنا إلى عدّتها البسیطة و عددها القلیل الذی لا یتجاوز الستین فردا و کلهم من المهاجرین و لیس فیهم من الانصار الذین بایعوا على القتال و النصرة، ندرک أنها لم تکن مرشّحة للقتال و إنّما کانت هذه السرایا وسیلة للضغط على قریش اقتصادیا(1) أیضا لعلّها تسمع نداء الحق باذن صاغیة و بقلب مفتوح أو تهادن المسلمین فلا تتعرض لهم لینتشر الإسلام فی أطراف اخرى، و فی الوقت نفسه کان ینبغی إشعار الیهود و المنافقین بقوة الإسلام و هیبة المسلمین.
و هکذا بعد مضیّ سبعة أشهر على الهجرة المبارکة انطلقت أول سریّة و کان
عدد افرادها ثلاثین رجلا بقیادة حمزة عم النبی (صلّى الله علیه و اله). ثم تلتها سریة اخرى بقیادة عبیدة بن الحارث. و سریة ثالثة بقیادة سعد بن أبی وقاص.
و خرج النبی (صلّى الله علیه و اله) فی صفر من العام الثانی للهجرة على رأس مجموعة من أتباعه لاعتراض قوافل قریش و لکن لم یحصل الصدام بین الطرفین فی حرکته نحو الأبواء و بواط. و فی خروجه الى ذی العشیرة وادع بنی مدلج و حلفاءهم من بنی ضمرة.
و تحرک النبیّ (صلّى الله علیه و اله) لردّ الاعتبار و معاقبة المعتدی حین أغار کرز بن جابر الفهری على أطراف المدینة لسلب الإبل و المواشی فخرج النبی (صلّى الله علیه و اله) لملاحقته و خلّف زید بن حارثة على المدینة(2)
و انطلق النبیّ (صلّى الله علیه و اله) فی حرکته العسکریة من مفهوم الجهاد و التضحیة من أجل الدین بدلا عن مفهوم العصبیة و الثأر، محترما أعراف و تقالید الصلح و المواعدة و حرمة الأشهر الحرم.
1) إذ إن مصدرها المالی هو التجارة من خلال حرکة القوافل بین مکة و الشام و الیمن.
2) السیرة النبویة: 1/ 598، المغازی: 1/ 11- 12.