مرّت الأیام التی تلت معرکة بدر ثقیلة على قریش و المشرکین. و فی المدینة لم یزل النبی (صلّى الله علیه و اله) یواصل عملیّة بناء الانسان و الدولة حیث کانت الآیات الإلهیة تترى و هی تشرّع للإنسان سلوکه و حیاته و النبی (صلّى الله علیه و اله) یفصّل التعالیم و یطبق الأحکام و یهدی الى طاعة الله.
و تظافرت الأسباب و الدواعی عند مشرکی مکة و من والاهم لخوض حرب جدیدة ضد الإسلام تزیح عن کاهلهم کابوس الهزیمة فی بدر و تطفىء غلیل الحقد
الذی ما زال یؤجّجه أبو سفیان زعیم البیت الاموی و الخاسر الأکبر فی بدر، کما کان عویل النساء و مطامع التجار الذین فقدوا کل الطرق الآمنة للتجارة عاملین آخرین لذلک.
فکانت الحرب محاولة لإضعاف المسلمین و تأمین طرق التجارة الى الشام، و الحدّ من تنامی قوة المسلمین العسکریة لتجنیب مکة من خطر الاحتلال و القضاء على الشرک فیها. و مما أسهم فی إعداد الحرب أیضا تحریض یهود و منافقی المدینة لقریش و غیرها لغزو المدینة و القضاء على الإسلام.
و سارع العباس بن عبد المطلب إلى الکتابة للنبی (صلّى الله علیه و اله) یخبره عن اجتماع کلمة قریش على الحرب و تهیئتهم للعدّة و العدد حیث استنفروا معهم القبائل و اتخذوا عدة أسالیب لإثارة الحرب و العزیمة على القتال إذ خرجت النسوة معهم.
و وصل الکتاب سرّا الى النبی (صلّى الله علیه و اله) فکتم الخبر عن المسلمین حتى یستوضح الأمر و یعدّ له العدّة اللازمة.
و اقتربت جحافل الشرک من المدینة فبعث النبی (صلّى الله علیه و اله) الحباب بن المنذر سرا لیستطلع العدو- بعد أن بعث أنسا و مؤنسا ابنی فضالة- فجاء الخبر و الوصف متوافقین مع کتاب العباس و خبر ابنی فضالة، و بات عدد من المسلمین من الذین أخبرهم رسول الله (صلّى الله علیه و اله) بالخبر فی حیطة و حذر خشیة مداهمة العدو.
ثم استشار رسول الله (صلّى الله علیه و اله) أصحابه بعد أن أعلن قدوم قریش للحرب فاختلفت آراؤهم بین التحصّن فی المدینة أو الخروج لملاقاة العدو خارجها. و لم یکن عسیرا على النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یحدد الخطة مسبقا لکنه أراد أن یشعر المسلمین بمسؤولیتهم. ثم کان الاتفاق على خروج المسلمین للقاء العدو و قتاله خارج المدینة. ثم صلّى النبیّ (صلّى الله علیه و اله) صلاة الجمعة و صعد المنبر و خطب و أخذ یعظ الناس و یذکّرهم بطاعة الله و أمرهم بالجد و الجهاد و الصبر. ثم نزل و دخل داره و لبس
لامته مما أثار المسلمین و هزهم بشدة و ظنوا أنهم أکرهوا الرسول (صلّى الله علیه و اله) على الخروج من المدینة فقالوا: یا رسول الله ما کان لنا أن نخالفک، فاصنع ما بدا لک.
فقال (صلّى الله علیه و اله): ما ینبغی لنبی إذا لبس لامته أن یضعها حتى یقاتل(2)
و خرج النبی (صلّى الله علیه و اله) فی ألف مقاتل من المسلمین و رفض أن یستعین بالیهود ضد المشرکین قائلا: لا تستنصروا بأهل الشرک على أهل الشرک(3) و لم یستطع المنافقون إخفاء حقدهم فانخذل عبد الله بن ابی عن رسول الله بثلاثمئة و بقی رسول الله بسبعمئة و کان المشرکون أکثر من ثلاثة الآف(4)
و عند جبل أحد وضع النبی (صلّى الله علیه و اله) خطة محکمة لیضمن النصر المؤزر ثم قام (صلّى الله علیه و اله) فخطب الناس قائلا: «أیها الناس أوصیکم بما أوصانی الله فی کتابه من العمل بطاعته و التناهی عن محارمه، ثمّ إنکم الیوم بمنزل أجر و ذخر لمن ذکر الذی علیه، ثم وطّن نفسه له على الصبر و الیقین و الجد و النشاط فإنّ جهاد العدو شدید کریه، قلیل من یصبر علیه، إلّا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه و إن الشیطان مع من عصاه، فافتحوا أعمالکم بالصبر على الجهاد و التمسوا بذلک ما وعدکم الله، و علیکم بالذی أمرکم به، فإنّی حریص على رشدکم فإن الاختلاف و التنازع و التثبیط من أمر العجز و الضعف مما لا یحب الله، و لا یعطی علیه النصر و لا الظفر»(5)
و اصطف المشرکون للقتال الذی سرعان ما نشب و لم یمض زمن طویل حتى ولّت قوى الشرک الأدبار، و کادت نساؤهم أن تقع بأیدى المسلمین سبایا، و بدا انتصار المسلمین واضحا فی ساحة المعرکة حتى وسوس الشیطان فی نفوس
بعض الرماة الذین وضعهم رسول الله (صلّى الله علیه و اله) فوق الجبل و أمرهم بعدم ترک مکانهم مهما کانت نتیجة المعرکة حتّى یتلقّوا أمرا جدیدا منه فعصوا أمر رسول الله (صلّى الله علیه و اله) و ترکوا مواقعهم سعیا وراء الغنائم فکرّت قوى الشرک ثانیة بقیادة خالد بن الولید من موقع الثغرة التی نهى رسول الله (صلّى الله علیه و اله) عن ترکها.
فذهل المسلمون لذلک و تفرّقت جموعهم و عادت فلول قریش المنهزمة الى الحرب و قتل عدد کبیر من المسلمین و أشاع المشرکون نبأ مقتل رسول الله (صلّى الله علیه و اله) و کادت کتائب الشرک أن تصل الى النبی (صلّى الله علیه و اله) لو لا استبسال علی بن أبی طالب و حمزة بن عبد المطلب و سهل بن حنیف و قلة قلیلة ثبتت فی ساحة المعرکة إذ فرّت البقیة الباقیة من المسلمین بما فیهم کبار الصحابة(6)، حتى أن بعضهم بدرت منه فکرة التبرّی من الإسلام فقال: لیت لنا رسولا إلى عبد الله بن ابی فیأخذ لنا أمانا من أبی سفیان(7)
و استشهد حمزة بن عبد المطلب عمّ النبی (صلّى الله علیه و اله) و تعرض رسول الله (صلّى الله علیه و اله) للإصابة فکسرت رباعیته السفلى و شقت شفته و سال الدم على وجهه فجعل یمسحه و هو یقول: کیف یفلح قوم خضبوا وجه نبیهم بالدم و هو یدعوهم الى الله(8) و قاتل (صلّى الله علیه و اله) حتى صارت قوسه شظایا. و طعن ابی بن خلف حین هجم علیه یرید قتله (صلّى الله علیه و اله) و مات ابی على أثرها و استبسل علی ابن أبی طالب بصورة لا نظیر لها و هو یفرق کل من یتقدم نحو رسول الله و یهده بسیفه فنزل جبرئیل على رسول الله (صلّى الله علیه و اله) فقال: یا رسول الله هذه المواساة، فقال (صلّى الله علیه و اله): «إنه منی و أنا منه».
فقال جبرئیل: و أنا منکما، فسمعوا صوتا یقول: «لا سیف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا علی»(9)
و انسحب الرسول (صلّى الله علیه و اله) و البقیة الباقیة معه من المسلمین الى الجبل و هدأت المعرکة و جاء أبو سفیان یستهزئ و یسخر بالمسلمین قائلا: اعل هبل.
و أمر رسول الله (صلّى الله علیه و اله) أن یرد على الکفر مظهرا بذلک عدم انکسار العقیدة رغم الانکسار فی ساحة المعرکة فقال قولوا: «الله أعلى و أجل».
و أمر النبی (صلّى الله علیه و اله) بالردّ ثانیة على شعار أبی سفیان الکافر حین قال: نحن لنا العزّى و لا عزّى لکم فقال (صلّى الله علیه و اله): قولوا «الله مولانا و لا مولى لکم»(10)
و رجع المشرکون إلى مکّة و قام النبی (صلّى الله علیه و اله) و المسلمون بدفن الشهداء فهالهم المنظر الفظیع الذی ترکته قریش فقد مثّلت بجثث الشهداء. و لما أبصر النبی (صلّى الله علیه و اله) حمزة بن عبد المطلب ببطن الوادی و قد اخرج کبده و مثّل به بوحشیة و حقد؛ حزن حزنا شدیدا و قال: ما وقفت موقفا قط أغیظ إلیّ من هذا.
و لم تکن التضحیات الجسام و الخسارة الکبیرة فی ساحة المعرکة لتثنی أهل العقیدة و الرسول القائد (صلّى الله علیه و اله) عن الاستمرار فی الدفاع عن حیاض الإسلام و کیان الدولة الفتیة، ففی الیوم التالی من رجوعهم إلى المدینة أمر النبی (صلّى الله علیه و اله) باستنفار المسلمین لطلب العدو و مطاردته على أن لا یخرج إلّا من حضر الغزوة فخرج المسلمون على ما بهم من جراح إلى منطقة حمراء الأسد و بهذا اتّبع الرسول القائد (صلّى الله علیه و اله) اسلوبا جدیدا لإرعاب العدو، ممّا جعل الخوف یسیطر علیهم فأسرعوا فی مسیرهم نحو مکّة(11) و رجع النبیّ (صلّى الله علیه و اله) و المسلمون إلى المدینة و قد استردوا
کثیرا من معنویاتهم.
1) وقعت معرکة أحد فی شوال من السنة الثالثة للهجرة.
2) السیرة النبویة: 2/ 23، المغازی: 1/ 214.
3) الطبقات لابن سعد: 2/ 39.
4) الطبری: 3/ 107.
5) المغازی: 1/ 221.
6) المغازی: 1/ 237، السیرة النبویة: 2/ 83، شرح نهج البلاغة: 15/ 20.
7) بحار الأنوار: 20/ 27. و قد وردت آیات القرآن تبین القتال و نوازع المسلمین فی سورة آل عمران: 3/ 121- 180.
8) تاریخ الطبری: 3/ 117، بحار الأنوار: 20/ 102.
9) تأریخ الطبری: 3/ 116، مجمع الزوائد: 6/ 114، بحار الأنوار: 20/ 71.
10) السیرة النبویة: 2/ 94.
11) السیرة النبویة: 2/ 102، الطبقات الکبرى: 2/ 49.