انقضت أیام الهدنة و النبی (صلّى الله علیه و اله) و المسلمون فی عمل دؤوب متواصل لترکیز دعائم الحکم الإسلامی، و لم تحدث تحرکات عسکریة مهمة بعد فتح خیبر سوى خروج سرایا تبلیغیة أو تأدیبیة لبعض العناصر التی کانت تظهر الشغب.
و مضى عام على صلح الحدیبیة إلتزم خلاله الطرفان ببنود الاتفاق و حلّ الوقت الذی أصبح النبی و المسلمون فی حلّ من عهدهم لزیارة بیت الله الحرام، فنادى منادی الرسول (صلّى الله علیه و اله) أن یتجهز المسلمون لأداء عمرة القضاء. و خرج مع النبی (صلّى الله علیه و اله) ألفان من المسلمین لا یحملون سلاحا إلّا السیوف فی القرب، و کان من حیطة النبی و حذره من احتمال الغدر أن جهّز مجموعة مسلحة عند (مرّ الظهران) لیکونوا القوّة المستعدة للدفاع عند الطوارئ.
و لما وصل النبی (صلّى الله علیه و اله) ذا الحلیفة أحرم هو و أصحابه و ساق معه ستین بدنة،
و قدّم الخیل أمامه، و کانت نحوا من مائة بقیادة محمد بن مسلمة. و خرج زعماء مکة و من تبعهم الى رؤوس الجبال و التلال المجاورة المطلة على مکة زاعمین أنهم لا یریدون النظر الى وجه النبی (صلّى الله علیه و اله) و لا إلى اصحابه، و لکن جلالة الرسول (صلّى الله علیه و اله) و هیبة منظر المسلمین الذین کانوا قد احتفّوا بالرسول و هم یردّدون التلبیة بهرت عیونهم و ترکتهم مذهولین ینظرون إلى النبی (صلّى الله علیه و اله) و المسلمین و هم یؤدون مناسکهم.
و طاف النبی (صلّى الله علیه و اله) حول البیت على راحلته التی کان یقودها عبد الله بن رواحة و أمر أن ینادی المسلمون بصوت عال: «لا إله إلّا الله وحده، صدق وعده، و نصر عبده، و أعزّ جنده و هزم الأحزاب وحده».
فدوّى النداء فی مکة و شعابها فانصدعت قلوب المشرکین رعبا و تملّکهم الغیظ و الحقد من مظاهر النصر الإلهی للنبی (صلّى الله علیه و اله) الذی خرج منهم طریدا قبل سبع سنین.
و أتم النبی (صلّى الله علیه و اله) و المسلمون مناسک العمرة، و أیقنت قریش بقوة الإسلام و المسلمین و أیقنت بکذب من أخبرها أن النبی (صلّى الله علیه و اله) و من معه فی جهد و تعب و ضیق و حرج بسبب الهجرة إلى المدینة.
و صعد بلال على ظهر الکعبة و أعلن نداء التوحید مؤذّنا لصلاة الظهر بمظهر روحانی بهیج أغاظ رؤوس الکفر من قریش … و قد کانت مکة کلّها تحت تصرف المسلمین.
و تفرق المهاجرون فیها و هم یصحبون إخوتهم الأنصار یزورون دورهم التی غادروها فی سبیل الله و یلتقون بأهلیهم و ذویهم بعد فراق طویل.
و أمضى المسلمون ثلاثة أیام فی مکة ثم غادروها بموجب الاتفاق الذی کان بینهم و بین قریش بعد أن رفضت طلب النبی (صلّى الله علیه و اله) بأن یتم مراسم زواجه من
«میمونة» خائفین من ازدیاد قوة النبی (صلّى الله علیه و اله) و اختراق الإسلام لمجتمع مکة من خلال طول مکث النبی (صلّى الله علیه و اله) فیها.
و خلّف النبی (صلّى الله علیه و اله) أبا رافع لیحمل إلیه زوجته «میمونة» حین یمسی، إذ خرج المسلمون قبل صلاة الظهر من مکّة(1)
1) السیرة النبویة: 2/ 372.