أصدر رسول الله (صلّى الله علیه و اله) أوامره الحکیمة بتوزیع مداخل القوات إلى مکة مؤکدا عدم اللجوء إلى القتال إلّا ردا علیه. و أهدر (صلّى الله علیه و اله) دماء عدد من المشرکین- فی کلّ الحالات- حتّى لو وجدوهم متعلقین بأستار الکعبة، لعظیم جنایتهم و معاداتهم للإسلام و للنبی (صلّى الله علیه و اله).
و ما إن لاحت بیوت مکة حتّى إغرورقت عینا النبی (صلّى الله علیه و اله) بالدموع، و دخلت قوّات الإسلام الظافرة مکة من جهاتها الأربع و مظاهر العز و النصر تجلّلها و دخل الرسول الأکرم (صلّى الله علیه و اله) مکة مطأطئا رأسه تعظیما لله و شکرا له على ما منحه من الفضل و النعمة حیث دانت لرسالته و دولته أم القرى، بعد طول جهد و عناء
تحمله (صلّى الله علیه و اله) فی سبیل إعلاء کلمة الله.
و رفض النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یدخل دار أحد من أهالی مکة رغم کثرة عروضهم له، و اغتسل بعد استراحة قصیرة و رکب راحلته و کبّر فکبّر المسلمون فدوّى الصوت فی الجبال و الوهاد- التی فرّ إلیها بعض رؤوس الشرک خوفا من الإسلام و نصره- و جعل یشیر و هو یطوف فی البیت إلى کل صنم موجود حوله و یقول:
قل جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل کان زهوقا، فیسقط الصنم لوجهه.
ثم أمر النبی (صلّى الله علیه و اله) علیّا أن یجلس لیصعد (صلّى الله علیه و اله) على کتفه و لکن لم یستطع علی (صلّى الله علیه و اله) أن یحمل النبی (صلّى الله علیه و اله) على کتفه لکسر الاصنام فوق الکعبة، من هنا صعد علیّ على کتف ابن عمّه (صلّى الله علیه و اله) و کسر الأصنام. ثم طلب النبیّ مفاتیح الکعبة و فتح بابها و دخلها و مسح ما فیها من صور. ثم وقف على بابها یخطب الجموع المتکاثرة خطبة الفتح العظیم فقال (صلّى الله علیه و اله): «لا إله إلّا الله وحده لا شریک له، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده، ألا کل مأثرة أو دم أو مال یدّعى فهو تحت قدمیّ هاتین، إلّا سدانة البیت و سقایة الحاج … ثم قال (صلّى الله علیه و اله): «یا معشر قریش إن الله قد أذهب عنکم نخوة الجاهلیة و تعظّمها بالآباء، الناس من آدم و آدم من تراب …»(1) ثم تلا قوله تعالى: یا أَیُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناکُمْ مِنْ ذَکَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناکُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ(2) یا معشر قریش ما ترون أنی فاعل بکم»؟.
قالوا: أخ کریم و ابن أخ کریم فقال (صلّى الله علیه و اله): «إذهبوا فأنتم الطلقاء»(3)
ثم ارتقى بلال سطح الکعبة لیؤذّن لصلاة الظهر فصلى المسلمون بإمامة النبی (صلّى الله علیه و اله) فی المسجد الحرام أوّل صلاة بعد هذا الفتح.
و وقف المشرکون و الحیرة تملکهم و تعلوهم الدهشة مشوبة بالخوف و الحذر. و خشیت الأنصار أن لا یرجع معها الرسول الکریم حین رأوا تفاعل النبی (صلّى الله علیه و اله) مع أهل مکة و وقفوا و الأسئلة تدور فى مخیّلتهم و النبی (صلّى الله علیه و اله) واقف یدعو الله و قد علم ما یدور بینهم فالتفت إلیهم قائلا: معاذ الله المحیا محیاکم و الممات مماتکم، معلنا بذلک أن المدینة ستبقى عاصمة الاسلام.
ثم أقبل الناس یبایعونه فبایعه الرجال- و تشفع عدد من المسلمین لدى النبی (صلّى الله علیه و اله) لیعفو عمن أهدر دمه فعفا و صفح.
و جاءت النساء لتبایع- فکانت المرأة تدخل یدها فی قدح فیه ماء قد وضع الرسول (صلّى الله علیه و اله) یده فیه- عَلى أَنْ لا یُشْرِکْنَ بِاللَّهِ شَیْئاً وَ لا یَسْرِقْنَ وَ لا یَزْنِینَ وَ لا یَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا یَأْتِینَ بِبُهْتانٍ یَفْتَرِینَهُ بَیْنَ أَیْدِیهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا یَعْصِینَکَ فِی مَعْرُوفٍ(4)
و غضب النبیّ (صلّى الله علیه و اله) حین عدت خزاعة- حلیفة الرسول (صلّى الله علیه و اله)- على رجل من المشرکین فقتلته و قام (صلّى الله علیه و اله) خطیبا فقال: «یا أیها الناس إن الله حرّم مکة یوم خلق السماوات و الأرض فهی حرام الى یوم القیامة، لا یحل لامرئ یؤمن بالله و الیوم الآخر أن یسفک دما أو یعضد فیها شجرا ..»(5)
ثم قال (صلّى الله علیه و اله): «فمن قال لکم إن رسول الله قد قاتل فیها فقولوا إن الله قد أحلّها لرسوله و لم یحللها لکم یا معشر خزاعة». و أکبرت قریش جمیع مواقف النبی (صلّى الله علیه و اله) من مکة و أهلها من عطف و رحمة و سماحة و عفو و احترام و تقدیس فمالت قلوبهم إلیه و أقبلوا على الإسلام آمنین مطمئنین.
و أرسل رسول الله (صلّى الله علیه و اله) سرایاه الى اطراف مکة و ما حولها لهدم ما تبقّى من الأصنام و أماکن عبادة المشرکین فأخطأ خالد بن الولید إذ قتل عددا من قبیلة
بنی جذیمة بعد استسلامهم ثأرا لعمّه(6) و غضب النبی (صلّى الله علیه و اله) حین علم بذلک و أمر علیا أن یأخذ أموالا و یدفع دیة المقتولین ثم قام (صلّى الله علیه و اله) و استقبل القبلة رافعا یدیه و هو یقول: «اللهم إنی أبرأ إلیک مما صنع خالد بن الولید»، و بذلک هدأت نفوس بنی جذیمة»(7)
1) مسند أحمد: 1/ 151، فرائد السمطین: 1/ 249، کنز العمّال: 13/ 171، السیرة الحلبیة: 3/ 86.
2) الحجرات (49): 13.
3) بحار الأنوار: 21/ 106، و السیرة النبویة: 2/ 412.
4) بحار الأنوار: 21/ 113، و سورة الممتحنة: الآیة 12.
5) سنن ابن ماجة، الحدیث 3109، کنز العمال، الحدیث 34682، الدر المنثور: 1/ 122، ط دار الفکر.
6) السیرة النبویة: 2/ 420، الخصال: 562، أمالی الطوسی: 318.
7) الطبقات الکبرى: 2/ 148.