أمضى النبی (صلّى الله علیه و اله) خمسة عشر یوما فی مکة فاتحا فیها عهدا جدیدا من التوحید بعد طول فترة من الشرک، و الغبطة و السرور یعمّان المسلمین، و الأمان یلفّ أم القرى، و ترامت إلى أسماع النبی (صلّى الله علیه و اله) أن قبیلتی هوازن و ثقیف قد أعدّتا العدّة لمحاربة الإسلام ظنّا منهما أنّهما یحققان ما عجزت عنه سائر قوى الشرک و النفاق من تدمیر الإسلام، و عزم النبی (صلّى الله علیه و اله) على الخروج لملاقاتهم و لکنه وطّد دعائم الإدارة فی مکة قبل خروجه کما هی سیرته عند کل فتح، فعیّن معاذ بن جبل لیعلّم الناس القرآن و أحکام الاسلام کما عیّن عتاب بن أسید للصلاة بالناس و إدارة الأمور.
و خرج النبی (صلّى الله علیه و اله) باثنی عشر ألفا من المقاتلین، و هی قوة لم یشهد المسلمون مثلها ممّا أدّى بهم الى الغرور و الغفلة حتى أن أبا بکر قال: لو لقینا بنی شیبان لن نغلب الیوم من قلّة(2)
أما (هوازن) و (ثقیف) فقد تحالفتا و خرجتا بکامل عدّتهم مع نسائهم و أطفالهم و کمنوا لإرباک جیش المسلمین، و حین وصلت طلائع جیش المسلمین
أطراف الکمین أرغموها على الفرار حتّى فرّت باقی قوّات المسلمین فزعا من أسلحة العدو، و لم یثبت مع رسول الله إلا تسعة أشخاص من بنی هاشم عاشرهم أیمن (ابن أم أیمن). و فرح المنافقون و سرّوا سرورا عظیما فخرج أبو سفیان یقول شامتا: لا تنتهی هزیمتهم دون البحر، و قال آخر: ألا بطل السحر الیوم.
و عزم آخر على قتل النبی (صلّى الله علیه و اله) فی ذلک الوضع المضطرب(3)
و أمر النبی (صلّى الله علیه و اله) عمه العباس أن یصعد على صخرة و ینادی فلول المهاجرین و الأنصار المدبرة قائلا: یا أصحاب سورة البقرة، یا أهل بیعة الشجرة، إلیّ. أین تفرّون؟ هذا رسول الله!
و کأن وعیا قد عاد بعد غفلة و حماسا دبّ بعد فتور فعادوا یوفون بوعود النصرة و الدفاع عن الاسلام و النبی (صلّى الله علیه و اله) … و لما رأى النبی (صلّى الله علیه و اله) حماسهم قال:
الآن حمی الوطیس، أنا النبیّ لا کذب أنا ابن عبد المطلب. فأنزل الله السکینة على المسلمین و أیدهم بالنصر فولّت جموع الکفر منهزمة تارکة وراءها ستة الآف أسیر و غنائم کبیرة جدا(4)، و أمر النبی (صلّى الله علیه و اله) أن تحفظ الغنائم و تراعى أحوال الأسرى حتى تتم ملاحقة العدو الغارّ الى منطقة أوطاس و نخلة و الطائف.
و کان من سمو أخلاق النبی (صلّى الله علیه و اله) و عظیم عفوه و سعة رحمته أن قال لأم سلیم: «یا أم سلیم قد کفى الله، عافیة الله أوسع» حین طلبت منه قتل الذین فرّوا عنه و خذلوه.
و فى موقف آخر، غضب النبی (صلّى الله علیه و اله) حین علم أن بعض المسلمین یقتل ذرّیة المشرکین غیظا منهم فقال (صلّى الله علیه و اله): «ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذریة،
ألا لا نقتل الذریة»، فقال أسید بن حضیر: یا رسول الله أ لیس هم أولاد المشرکین.
فقال (صلّى الله علیه و اله): أو لیس خیارکم أولاد المشرکین، کل نسمة تولد على الفطرة حتى یعرب عنها لسانها، و أبواها یهوّدانها أو ینصّرانها(5)
و واصلت قوات المسلمین ملاحقتها للعدو حتى الطائف فحاصروهم بضعا و عشرین یوما یترامون بالنبل من خلف الجدران و البساتین، ثم عدل النبیّ (صلّى الله علیه و اله) عن الطائف لاعتبارات کثیرة.
و عند وصوله الى الجعرانة (محل تجمیع الأسرى و الغنائم) قام إلیه وفد هوازن یلتمسون العفو عنده فقالوا: یا رسول الله إنما فی هذه الأسرى عمّاتک و خالاتک اللاتی کن یکفلنک- حیث کان النبی (صلّى الله علیه و اله) قد رضع فی بنی سعد و هم من هوازن- و لو أنا مالحنا الحارث بن أبی شمر أو النعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذی نزلت به رجونا عطفه و عائدته علینا و أنت خیر المکفولین. فخیّرهم الرسول بین الأسرى و المال فاختاروا الأسرى، ثم قال (صلّى الله علیه و اله): «أمّا ما کان لی و لبنی عبد المطلب فهو لکم». و أسرع المسلمون جمیعا یقتدون بالرسول القائد (صلّى الله علیه و اله) و یهبون له ما لهم من نصیب(6)
و بحکمة بالغة و درایة عمیقة بنفوس الناس و سعیا لهدایة الجمیع و إطفاءا لنار الحرب منّ الرسول (صلّى الله علیه و اله) بعفوه حتى على «مالک بن عوف» مثیر هذه الحرب إن جاءه مسلما فقال (صلّى الله علیه و اله): «أخبروا مالکا إنّه إن أتانی مسلما رددت علیه أهله و ماله و أعطیته مائة من الابل». و سرعان ما أسلم مالک(7)
1) وقعت معرکة حنین فى شوال من السنة الثامنة للهجرة.
2) الطبقات الکبرى: 2/ 150، المغازی: 2/ 889.
3) السیرة النبویة: 2/ 443، المغازی: 3/ 99.
4) نزلت آیات من سورة التوبة و هی توضح تأیید الله و نصره، و تلوم من اعتمد العدة و العدد و اعتبارهما سببا للنصر.
5) امتاع الاسماع: 1/ 409.
6) سید المرسلین: 2/ 53، المغازی: 3/ 949- 953.
7) المغازی: 3/ 954- 955.