أبدى النبی (صلّى الله علیه و اله) اهتماما کبیرا للحدود الشمالیة للدولة الإسلامیة حیث تتواجد دولة الروم المنظمة و صاحبة الجیش القوی. و لم تکن دولة فارس ذات أثر مقلق على الدولة الإسلامیة لأنّ علامات الانهیار کانت قد بدت علیها، کما أنها لم تکن تملک عقیدة روحیة تدافع عنها کالمسیحیة لدى الروم، فهی التی کانت تشکّل خطرا على الکیان الإسلامی الفتیّ، خاصة و أن بعض عناصر الشغب و النفاق قد أجلیت عن الدولة الإسلامیة فذهبت إلى الشام و لحق بها آخرون، و کان وجود نصارى نجران عاملا سیاسیا یدفع الروم لنصرتهم.
و مع ذلک فإنّ کل هذه الامور لم تکن عوامل آنیّة تستدعی الاهتمام الکبیر الذی ظهر واضحا من إعداد النبی (صلّى الله علیه و اله) لجیش کبیر ضمّ وجوه کبار الصحابة ما خلا علیا و بعض المخلصین معه فقد أراد النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یخلو الجو السیاسی من امور قد تعیق عملیّة انتقال السلطة إلى علی بن أبی طالب (علیه السّلام) للقیام بمهام الخلافة من بعده، بعد أن لمس النبیّ تحسّسا و انزعاجا من بعض الأطراف بعد تأکیده المستمر على مرجعیّة علیّ (علیه السّلام) و صلاحیّته لإتمام مسیرة النبی (صلّى الله علیه و اله) و خصوصا بعد بیعة الغدیر، فأراد النبی (صلّى الله علیه و اله) أن یخلو الظرف من التوتر السیاسی فی المدینة لیتم استلام علی (علیه السّلام) لزمام الدولة من بعده دون صدام و شجار؛ و لهذا عقد النبی (صلّى الله علیه و اله) لواء و سلّمه الى اسامة بن زید- القائد الشاب الذی نصبه الرسول (صلّى الله علیه و اله) فی اشارة بلیغة إلى أهمیة الکفاءة فی القیادة- و جعل تحت إمرته شیوخ الأنصار و المهاجرین، و قال له: «سر إلى موضع قتل أبیک فأوطئهم الخیل فقد ولّیتک هذا الجیش فاغز صباحا على أهل ابنى».
و لکنّ روح التمرد و الطمع فی السلطان و قلّة الانضباط دفعت بعض العناصر إلى عدم التسلیم التام لأمر النبی (صلّى الله علیه و اله) و لعلّها کانت عارفة بالأهداف التی قصدها النبی (صلّى الله علیه و اله) و من هنا حاولت أن تؤخّر حرکة الجیش المجتمع فی معسکر «الجرف». و بلغ النبی (صلّى الله علیه و اله) ذلک فغضب و خرج- و هو ملتحف قطیفة، و قد عصّب جبهته بعصابة من ألم الحمّى التی أصابته- إلى المسجد فصعد المنبر ثم حمد الله و أثنى علیه و قال: أما بعد أیها الناس فما مقالة بلغتنی عن بعضکم فی تأمیری اسامة، و لئن طعنتم فی إمارتی أباه من قبله و أیم الله إن کان للإمارة لخلیقا و إن ابنه من بعده لخلیق للإمارة، و إن کان لمن أحب الناس إلیّ و إنّهما لمخیلان لکل خیر(2)، و استوصوا به خیرا فإنه من خیارکم»(3)
و اشتدت الحمى برسول الله (صلّى الله علیه و اله) و لم یغفله ثقل المرض عن الاهتمام الکبیر لخروج الجیش فکان یقول: «أنفذوا جیش اسامة»(4) لکل من کان یعوده من أصحابه و یزید إصرارا بقوله: «جهّزوا جیش اسامة لعن الله من تخلف عنه»(5) و أوصل بعض المسلمین أنباء تدهور صحة النبی (صلّى الله علیه و اله) الى معسکر المسلمین فی الجرف فرجع اسامة لیعود النبی (صلّى الله علیه و اله) فحثّه النبیّ على المضیّ نحو هدفه الذی رسمه له و قال له: «اغد على برکة الله».
فعاد اسامة مسرعا إلى جیشه یحثه على الرحیل و التوجه للقیام بالمهمة المخوّلة إلیه و لکن المتقاعسین و ذوی الأطماع فی الخلافة تمکّنوا من عرقلة مسیرة الجیش زاعمین أنّ النبی (صلّى الله علیه و اله) یحتضر، بالرغم من تأکید الرسول (صلّى الله علیه و اله) بالتعجیل فی المسیر و عدم التردّد فی المهمّة التی جعلها على عاتق جیش اسامة.
1) عقد النبی (صلّى الله علیه و اله) اللواء لاسامة فی صفر عام (11 ه).
2) بمعنى أنهما ممن یتفرّس فیهما کل خیر. و الخولیّ: هو الراعی الحسن القیام على المال.
3) الطبقات الکبرى: 2/ 190، ط دار الفکر.
4) المصدر السابق.
5) الملل و النحل: 1/ 23.