و بعث بالمساواة فی الحقوق بین جمیع الخلق، و أنّ أحدا لیس خیرا من أحد إلا بالتقوى. و بالاخوّة بین جمیع المؤمنین و بالکفاءة بینهم: تتکافأ دماؤهم و یسعى بذمتهم أدناهم، و بالعفو العام عمن دخل فی الاسلام.
و سنّ شریعة باهرة و قانونا عادلا تلقّاه عن الله تعالى فکان هذا القانون جامعا لأحکام عباداتهم و معاملاتهم و ما یحتاجونه فی معاشهم و معادهم و کان عبادیا اجتماعیا سیاسیا أخلاقیا لا یشذّ عنه شیء مما یمکن وقوعه فی حیاة البشر مستقبلا و یحتاج الیه بنو آدم، فما من واقعة تقع و لا حادثة تحدث إلّا و لها فى الشریعة الاسلامیة أصل مسلّم عند المسلمین ترجع الیه.
على أن العبادات فی الدین الاسلامی لا تتمحض لمجرد العبادة ففیها منافع بدنیة و اجتماعیة و سیاسیة فالطهارة تفید النظافة، و فی الصلاة ریاضة روحیة و بدنیة، و فی صلاة الجماعة و الحج فوائد اجتماعیة و سیاسیة ظاهرة، و فی الصوم فوائد صحیة لا تنکر، و الاحاطة بفوائد الاحکام الاسلامیة الظاهرة فضلا عن الخفیة أمر متعذّر أو عسیر.
و لما فی هذا الدین من محاسن و موافقة أحکامه للعقول و سهولتها
و سماحتها و رفع الحرج فیه و الاکتفاء بإظهار الشهادتین و لما فی تعالیمه من السمو و الحزم و الجد دخل الناس فیه افواجا و ساد أهله على أعظم ممالک الأرض و اخترق نوره شرق الارض و غربها و دخل جمیع أقالیمها و أقطارها تحت لوائه و دانت به الأمم على اختلاف عناصرها و لغاتها.
و لم یمض زمن قلیل حتى أصبح ذلک الرجل الذی خرج من مکة مستخفیا و أصحابه یعذّبون و یستذلون و یفتنون عن دینهم، یعتصمون تارة بالخروج إلى الحبشة مستخفین و اخرى بالخروج الى المدینة متسللین، یدخل مکة بأصحابه هؤلاء فی عمرة القضاء ظاهرا لا یستطیعون دفعه و لا منعه و لم تمض إلّا مدة قلیلة حتى دخل مکة فاتحا لها و سیطر على أهلها من دون أن تراق محجمة دم بل و لا قطرة دم فدخلوا فی الاسلام طوعا و کرها و توافدت علیه رؤساء العرب ملقیة إلیه عنان طاعتها و کان من قبل هذا الفتح بلغ من القوة أن بعث برسله و سفرائه إلى ملوک الأرض مثل کسرى و قیصر و من دونهما و دعاهم إلى الاسلام و غزا بلاد قیصر مع بعد الشقة و ظهر دینه على الدین کله کما وعده ربه حسبما صرّح تعالى بذلک فی سورة النصر، و الفتح و غیرهما و کما تخبرنا بذلک کتب التاریخ.
و لم یقم هذا الدین بالسیف و القهر کما یصوّره من یرید الوقیعة فیه بل کما أمر الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ(1) و لم یحارب أهل مکة و سائر العرب حتى حاربوه و أرادوا قتله و اخرجوه، و أقر أهل الادیان التی نزلت بها الکتب السماویة على أدیانهم و لم یجبرهم على الدخول فی الاسلام.
1) النحل (16): 125.