سبق أن قلنا: إنه قد کان لابد للحکم من إشغال العامة، وملء الفراغ الروحی والنفسی الذی نشأ عن إبعاد العلماء الحقیقیین عن التعاطی مع الناس، وتثقیفهم وتربیتهم. وبعد أن استقر الرأی علی إعطاء دور رائد لأهل الکتاب فی هذا المجال، فقد اتجه الحکام نحو استحداث طریقة جدیدة، من شأنها أن تشغل الناس، وتملأ فراغهم، وتوجد حالة من الطمأنینة لدیهم، مع ما تقدمه لهم من لذة موهومة، ولکنها محببة. مع الاطمئنان إلی أن هذه
الطریقة لا تؤدی إلی إحراج الحکام فی شیء، بطرح أی من الأمور الحساسة، التی لا یریدون التعرض لها، أو المساس بها. وهذه الطریقة هی السماح بالقصص لمسلمة أهل الکتاب، من الأحبار والرهبان، حیث ینشرون فی الناس ما شاؤوا من أساطیر وترهات، ویذهبون بأوهام الناس وخیالاتهم فی آفاق الخواء والهباء، ثم یقذفون بها فی أقبیة الأحلام الصفیقة، أو فی أغوار النسیان العمیقة والسحیقة. وأهل الکتاب هم أجدر وأبرع من تصدی لهذا الأمر، وأولی من حقق الغایة المنشودة، لان العرب کانوا إلی عهد قریب یحترمونهم، ویثقون بهم وبعلمهم، ولم یستطع الإسلام ـ رغم ما قام به من جهود ـ أن ینتزع هذه النظرة التی لا تستند إلی أساس موضوعی من النفوس المریضة أو الضعیفة. وقد قام أحبار أهل الکتاب بالمهمة التی أوکلت إلیهم خیر قیام، وحققوا کل أهداف الحکم والحاکمین، وأهدافا أخری کانوا هم أنفسهم یسعون إلیها، ویعملون لیل نهار فی سبیل الوصول والحصول علیها. وإذا کانوا فی السابق یعملون فی السر والخفاء، فها هم الیوم یمارسون نشاطهم جهرا وبطلب من الحکم القائم بالذات.