وقد استمر المنع من کتابة الحدیث وروایته عشرات السنین. وأصبح التحاشی عنه هو الصفة الممیزة لعلماء الأمة وطلیعتها المثقفة. بل لقد صارت کتابة الحدیث عیبا أیضاً، حتی فی أوائل عهد بنی مروان(1)
ومضت السنون والأحقاب، ومات الصحابة الأخیار، بل أوشک التابعون علی الانقراض أیضاً. ونشأت أجیال وأجیال، لم تسمع أحدا یذکر شیئاً عن نبیها، ولا عن مواقفه، وتعالیمه، وسیرته ومفاهیمه. وتربت هذه الأجیال علی النهج الفکری الذی أراده لها الحکام والمتسلطون، والموتورون والحاقدون، وتلامذة أهل الکتاب، المعجبون بهم. وذهب الدین وتلاشی، حتی لم یبق من الإسلام إلا اسمه، ومن الدین إلا رسمه، حسبما روی عن أمیر المؤمنین علی علیه الصلاة
والسلام(2)، الذی لم یعش إلا إلی سنة أربعین من الهجرة. ثم ازداد البلاء بعد ذلک، وبرح الخفاء، إلی حد الفضیحة، فاضطر عمر بن عبد العزیز إلی القیام بعمل رمزی ضعیف وضئیل، لم یکن له أی أثر یذکر علی الصعید العملی، علی مستوی الأجیال والأمة. ثم بدأت الحرکة الحقیقیة باتجاه التدوین فی أواسط القرن الثانی للهجرة، حسبما تقدم توضیحه.
وخلاصة الأمر: أن الحال قد تردت خلال أقل من ثلاثین سنة من وفاة النبی (ص) إلی ذلک الحد الذی أشار إلیه سید الوصیین علیه السلام. وطمست معظم معالم الدین، ومحقت أحکام الشریعة، کما أکدته نصوص کثیرة(3)
وکان ذلک فی حین أن الصحابة وعلماءهم کانوا لا یزالون علی قید الحیاة، وکان الناس ینقادون إلی الدین وأحکامه، ویطیعون رموزه وأعلامه. فکیف تری أصبحت الحال بعد أن فتحت الفتوح، ومُصِّرت الأمصار، ودخلت أقطار کثیرة أو أظهرت الدخول فی الإسلام، تحت وطأة الفتوحات، التی قامت بها السلطة الحاکمة آنذاک. وکان أن تضخمت الحالة السکانیة، واتسعت رقعة العالم الإسلامی، فی فترة قصیرة جدا، وبسرعة هائلة.
لقد کان من الطبیعی: أن یأخذ هؤلاء الوافدون جدیدا علی الإسلام ثقافتهم الدینیة من الناس الذین التقوا بهم، وعاشوا معهم، أو تحت سلطتهم وهیمنتهم. فإذا کان هؤلاء ضائعین، جهالاً بأحکام الشریعة، وبحقائق الدین، فما ظنک بالتابعین لهم والآخذین عنهم، فإنهم سوف لا یأخذون عنهم إلا ثمرات ذلک الجهل، وآثار ذلک الضیاع.
1) راجع: تقیید العلم ص 114 و 110 وراجع سنن الدارمی ج 1 ص 126 وعن المحدث الفاصل ج 4 ص 23 وجامع بیان العلم ج 1 ص 73. کان حکم بنی مروان بعد حکم آل أبی سفیان، الذی انتهی بمعاویة بن یزید.
2) راجع: نهج البلاغة الحکمة رقم 369 والحکمة رقم 190.
3) راجع: المصنف للصنعانی ج 2 ص 63 ومسند أبی عوانة ج 2 ص 105 والبحر الزخار ج 2 ص 254. وکشف الأستار عن مسند البزار ج 1 ص 260 ومسند أحمد ج 4 ص 428 و 432 و 441 و 444 ومروج الذهب ج 3 ص 85 والغدیر ج 8 ص 166 ومکاتیب الرسول ج 1 ص 62.