قد ظهر مما تقدم: أن الأحادیث التی کان قد بلغ تداولها إلی درجة الصفر أو کاد، قد بدأت بعد السماح للناس بالروایة، بعد عشرات السنین تظهر علیها أعراض التضخم المطرد بصورة غیر طبیعیة، وبدون أیة ضابطة أو رابطة. إذ أن مراجعة جامعة لکتب تراجم الحفاظ وأهل الحدیث، ومن یسمونهم بالفقهاء مثل تذکرة الحفاظ للذهبی(1) وغیره تعطینا أمرین: أحدهما: أنها تعظم وتفخم وتخلع مختلف الألفاظ الدالة علی الحفظ والعلم، والتبحر علی أشخاص کثیرین، بل تصف بعضهم بأنه وحید فی مصره أو فی عصره. ثم یظهر: أنه إنما کان یحفظ ثلاث مئة حدیث، أو لم یثبت لدیه سوی سبعة عشر حدیثا، أو لا یعرف أنه یحرم الزواج بأم الزوجة، أو ما إلی ذلک مما ألمحنا إلیه.
الثانی: إن ملاحظة طبقات الحفاظ تعطینا تدرجا ملفتا للنظر فی حجم الأحادیث، فتجد أن طبقة کبیرة فی الصدر الأول یوصف الحافظ
منها بأن عنده ثلاثون أو ستون حدیثا، أو مئة أو عشرة أحادیث، أو مئتا حدیث، ونحو ذلک. ثم إذا تقدم الزمان قلیلا یترقی العدد لیتراوح بین الألف والألفین، والثلاثة والخمسة ونحو ذلک. ثم فی فترة لاحقة یترقی العدد إلی بضع عشرات: عشرین ألفا، ثلاثین، وهکذا. ثم تأتی فترة فتوصل الأعداد إلی مئة ألف أو مئتین أو ثلاث مئة. ثم یقفز العدد إلی الست والسبع مئة، وإلی الملیون حدیث، وأکثر من ذلک حتی لیفوز بعضهم مثل شعبة بلقب أمیر المؤمنین فی الحدیث(2)
ولا ننسی هنا: أن نستشهد لهذا الذی ذکرناه بأننا فی حین نجد: أن القاضی عبد الجبار یصرح بأن أحادیث التجسیم والتشبیه من أخبار الآحاد(3)
وقال أحمد بن حنبل: إن بعض أهل الحدیث أخبره: أن یحیی بن صالح (المتوفی سنة 222 ه.((4) قال: لو ترک أصحاب الحدیث عشرة أحادیث، یعنی هذه التی فی الرؤیة. ثم قال أحمد: کأنه نزع إلی رأی جهم(5)
فیحیی بن صالح الذی یروی له البخاری، وأصحاب الصحاح الست سوی النسائی(6) یرید أن یقول: إن الاعتقاد برؤیة الله قائم علی عشرة أحادیث فقط. بل صرح بعضهم: بأن أخبار الرؤیة لا تزید علی ثمانیة أحادیث(7)
ولکننا بعد حوالی نصف قرن من الزمن نجد ابن خزیمة الذی یصفونه بأنه إمام الأئمة یؤلف کتابا بعنوان التوحید وإثبات صفات الرب یبلغ عدد صفحاته حوالی أربع مئة صفحة، قد شحنه بأحادیث التجسیم، وأحادیث الرؤیة من أوله إلی آخره، وفیه الکثیر مما یدل علی أن لله تعالی یدا، ورجلا، وعینا، وإصبعا، وساقا ووالخ.. تعالی الله عما یقوله الجاهلون والمبطلون علوا کبیرا. فمن أین جاءت هذه الأحادیث؟ وکیف ومتی لفقت واخترعت؟! لا ندری، غیر أننا وجدنا الإمام الشافعی ینقل عن القاضی أبی یوسف، الذی عاش فی أواخر القرن الثانی قوله: والروایة تزداد کثرة، ویخرج منها ما لا یعرف، ولا یعرفه أهل الفقه، ولا یوافق الکتاب ولا السنة(8)
وذلک یفسر لنا العدید من الظواهر الأخری الملفتة للنظر، مما سنشیر إلی بعض منه فیما یلی من مطالب.
1) شرف أصحاب الحدیث ص 115 وفضل الاعتزال وطبقات المعتزلة لعبد الجبار ص 193.
2) راجع: الباعث الحثیث ص 186 و 187.
3) فضل الاعتزال، وطبقات المعتزلة ص 193 و 158.
4) راجع: سیر أعلام النبلاء ج 1 ص 456 والتاریخ الکبیر ج 8 ص 282 وتهذیب التهذیب ج 11 ص 230.
5) سیر أعلام النبلاء ج 10 ص 455 والعلل ومعرفة الرجال ج 1 ص 187 وتهذیب التهذیب ج 11 ص 230 والضعفاء الکبیر للعقیلی ج 4 ص 408 وتذکرة الحفاظ ج 1 ص 408.
6) راجع: مقدمة فتح الباری ص 452 وتهذیب التهذیب ج 11 ص 229.
7) المغنی للقاضی عبد الجبار ج 4 ص 228 وص 225 و 235 و 233.
8) الأم للشافعی ج 7 ص 308.