هناک فرقتان من الیهود: إحداهما: فقهاء الفریسیین، وهم یؤمنون بکتابة العلم وتدوینه.
ویکتبون کلام علمائهم وأحبارهم. کما هو الحال بالنسبة إلی التلمود، الذی له أهمیة کبیرة عند معظم الیهود، بل إن أهمیته لدی بعض فرقهم لتزید علی أهمیة العهد القدیم نفسه(1)
الثانیة: فرقة یقال لها: القراء، وهم الذین کثروا ونشطوا بعد ضعف أمر الفریسیین. وهم یقولون بعدم جواز کتابة شیء غیر التوراة(2)
وقد صرح البعض بأن فرقة الصدوقیین لا تعترف إلا بالعهد القدیم، وترفض الأخذ بالأحادیث الشفویة المنسوبة إلی موسی علیه السلام(3)
بل لقد جاء فی التلمود نفسه: إن الأمور التی تروی مشافهة لیس لک الحق فی إثباتها بالکتابة(4)
وقد علق علی ذلک بعض العلماء بقوله: من العجیب: أن الیهود کتبوا التلمود والمشناة حتی هذا النهی. وأهل الحدیث من المسلمین کتبوا الأحادیث حتی الحدیث المکذوب: لا تکتبوا عنی… الخ(5)
غیر أننا نقول: إن المقصود هو المنع من الروایات الشفویة عن الأنبیاء، أما أقوال العلماء فهی الشریعة، تماما کما یقول البعض الآن: إن آراء الصحابة شریعة وسنة.
والذی یظهر لنا هو: أن کعب الأحبار قد کان من الفرقة التی لا تجیز کتابة غیر التوراة. ویشیر إلی ذلک: أنه حینما سأله الخلیفة الثانی عن الشعر، أجابه کعب واصفا العرب بقوله: أجد فی التوراة قوما من ولد إسماعیل، أناجیلهم فی صدورهم، ینطقون بالحکمة(6)
وقد روی مثل ذلک وهب بن منبه أیضاً ـ الذی کان أیضاً فی الأساس من أهل الکتاب ـ فقد جاء فی روایة مطولة له قوله: یا رب، إنی أجد فی التوراة قوما أناجیلهم فی صدورهم، یقرؤونها. وکان من قبلهم یقرؤون کتبهم نظرا، ولا یحفظونها، فاجعلهم أمتی، قال: تلک أمة محمد(7)
فلعل کعب الأحبار، وغیره ممن کان مقربا من السلطة قد استفاد من حسن الظن به من قبل الصحابة والحکام، فألقی هذا الأمر إلیهم، وهم غافلون، فوافق قبولا منهم، بسبب ما کانوا یعانونه من مشکلات ألمحنا إلیها آنفاً. ومما یشیر إلی أن السلطة قد کانت تختزن فی وعیها شیئاً من ذلک
هو التعلیل الذی جاؤوا به حینما أرادوا إحراق ما جمعوه من أحادیث کتبها الصحابة عن رسول الله (ص)، حیث ذکروا: أن سبب إقدامهم علی هذا الأمر هو الالتفات إلی أن أمما کانوا قبلهم کان بینهم کتاب الله، فلما کتبوا أقوال علمائهم أکبوا علیها، وترکوا کتاب الله (فراجع ما تقدم). والملفت للنظر هنا: أن یتخیل هؤلاء المساواة فیما بین أقوال النبی الذی لا ینطق عن الهوی، وبین أقوال علماء أهل الکتاب الذین کانوا یخلطون الحق بالباطل عن عمد وإصرار فی کثیر من الأحیان، إن لم یکن فی أکثرها.
1) راجع: الیهودیة والیهود ص 23.
2) راجع: التفکیر الدینی عند الیهود، لمحمد حسن ضاضا وراجع: مقارنة الأدیان (الیهودیة) ص 227.
3) الیهودیة والیهود ص 86 ومقارنة الأدیان (الیهودیة) ص 226.
4) الفکر الدینی الإسرائیلی للدکتور ظاظا ص 79 عن التلمود: حیطین 60 ب ـ تمور.
5) بحوث مع أهل السنة والسلفیة هامش ص 97.
6) راجع: العمدة لابن رشیق ج 1 ص 25 وقد صرح بذلک کعب فی حدیث أخر فراجع الدر المنثور ج 3 ص 125 ثم روی ذلک أبو هریرة وقتادة عن النبی (ص) فراجع الدر المنثور ج 3 ص 124 و 123 و122 وقد استدل البعض بهذا الحدیث علی حفظ القرآن عن ظهر قلب، فراجع مناهل العرفان ج 1 ص 235 والنشر فی القراءات العشر ج 1 ص 6. وفی ربیع الأبرار ج 2 ص 150 ذکر هذا الحدیث عن التوراة علی لسان راهب آخر فراجع.
7) راجع: البدایة والنهایة ج 6 ص 62 ونزهة المجالس ج 2 ص 199.