قال ابن کثیر(1): قالوا لمّا أصیب خبیب و أصحابه خرج رسول الله (ص) طالبا بدمائهم لیصیب من بنی لحیان غرّة، فسلک طریق الشام لیرى انّه لا یرید بنی لحیان، حتّى نزل بأرضهم فوجدهم قد حذروا و تمنعوا فی رؤوس الجبال، فقال رسول الله (ص): لو أنّا هبطنا لرأت قریش انّا قد جئنا مکة، فخرج فی مائتی راکب حتّى نزل عسفان، ثم بعث فارسین حتّى جاء أکراع الغمیم، ثم انصرفا. فذکر أبو عیاش الزرقی انّ رسول الله (ص) صلّى بعسفان صلاة الخوف.
و قد قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا الثوری، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: کنّا مع رسول الله (ص) بعسفان، فاستقبلنا المشرکون علیهم خالد بن الولید، و هم بیننا و بین القبلة، فصلّى بنا رسول الله (ص) صلاة الظهر، فقالوا: قد کانوا على حال لو أصبنا غرّتهم. ثم قالوا: تأتی الآن علیهم صلاة هی أحبّ إلیهم من أبنائهم و أنفسهم. قال: فنزل جبریل بهذه الآیات بین الظهر و العصر «وَ إِذا کُنْتَ فِیهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» الآیات. قال: فحضرت فأمرهم رسول الله (ص) فأخذوا السلاح، فصففنا خلفه صفّین، ثم رکع فرکعنا جمیعا، ثم رفع فرفعنا جمیعا، ثم سجد بالصف الذی یلیه و الآخرون قیام یحرسونهم، فلمّا سجدوا و قاموا جلس الآخرون فسجدوا فی مکانهم، ثم تقدّم هؤلاء الى مصاف هؤلاء و جاء هؤلاء الى مصاف هؤلاء. قال: ثم رکع فرکعوا جمیعا ثم رفع فرفعوا جمیعا ثم سجد الصف الذی یلیه و الآخرون قیام یحرسونهم، فلمّا جلسوا جلس الآخرون، فسجدوا ثم سلّم علیهم ثم انصرف قال: فصلّاها رسول الله (ص) مرّتین، مرّة بأرض عسفان و مرّة بأرض بنی سلیم. ثم رواه أحمد عن غندر، عن شعبة، عن منصور به نحوه.
و قد رواه أبو داود عن سعید بن منصور، عن جریر بن عبد الحمید و النسائی عن القلاس، عن عبد العزیز بن عبد الصمد، عن محمد بن المثنّى، و بندار عن غندر، عن شعبة، ثلاثتهم عن منصور به. و هذا اسناد على شرط الصحیحین و لم یخرجه واحد منهما، لکن روى مسلم من طریق أبی خیثمة زهیر بن معاویة عن أبی الزبیر عن جابر قال: غزونا مع رسول الله (ص) قوما من جهینة، فقاتلوا قتالا شدیدا، فلمّا أن صلّى الظهر قال المشرکون: لو ملنا علیهم میلة واحدة لاقتطعناهم. فأخبر جبرئیل رسول الله (ص) بذلک، و ذکر لنا رسول الله قال: و قالوا انّه سیأتیهم صلاة هی أحبّ إلیهم من الأولاد. فذکر الحدیث کنحو ما تقدّم.
و قال أبو داود الطیالسی: حدّثنا هشام، عن أبی الزبیر، عن جابر بن عبد الله قال: صلّى رسول الله بأصحابه الظهر بنخل، فهمّ به المشرکون، ثم قالوا: دعوهم فانّ لهم صلاة بعد هذه الصلاة هى أحب إلیهم من أبنائهم قال: فنزل جبریل على رسول الله (ص) فأخبره، فصلّى بأصحابه صلاة العصر، فصفّهم صفّین بین أیدیهم رسول الله و العدوّ بین یدی رسول الله، فکبّر و کبّروا جمیعا، و رکعوا جمیعا، ثم سجد الذین یلونهم و الآخرون قیام، فلمّا رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدّم هؤلاء و تأخّر هؤلاء فکبّروا جمیعا و رکعوا جمیعا ثم سجد الذین یلونه و الآخرون قیام، فلمّا رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون.
و قد استشهد البخاری فی صحیحه بروایة هشام هذه عن أبی الزبیر عن جابر، و قال الإمام أحمد: حدّثنا سعید بن عبید الهنائی، حدّثنا عبد الله بن شفیق، حدّثنا أبو هریرة: انّ رسول الله (ص) نزل بین ضجنان و عسفان، فقال المشرکون: انّ لهؤلاء صلاة هی أحبّ إلیهم من أبنائهم و أبکارهم و هی العصر، فاجمعوا أمرکم فمیلوا علیهم میلة واحدة، و انّ جبریل أتى رسول الله (ص) و أمره أن یقیم أصحابه شطرین فیصلّی ببعضهم و یقدّم الطائفة الأخرى ورائهم و لیأخذوا حذرهم و أسلحتهم، ثم تأتی الأخرى فیصلّون معه و یأخذ هؤلاء حذرهم و أسلحتهم، لیکون لهم رکعة مع رسول الله و لرسول الله رکعتان.
و رواه الترمذی و النسائی من حدیث عبد الصمد به، و قال الترمذی حسن صحیح.
قلت: إن کان أبو هریرة شهد هذا فهو بعد خیبر، و إلّا فهو من مرسلات الصحابی، و لا
یضر ذلک عند الجمهور و الله أعلم.
ثم قال: و لم یذکر فی سیاق حدیث جابر عند مسلم و لا عند أبی داود الطیالسی أمر عسفان و لا خالد بن الولید، لکنّ الظاهر انّها واحدة. بقی الشأن فی انّ غزوة عسفان قبل الخندق أو بعدها، فإنّ من العلماء منهم الشافعی من یزعم انّ صلاة الخوف انّما شرعت بعد یوم الخندق، فانّهم أخّروا الصلاة یومئذ عن میقاتها عند القتال، و لو کانت صلاة الخوف مشروعة اذ ذاک لفعلوها و لم یؤخّروها، و لهذا قال بعض أهل المغازی: انّ غزوة بنی لحیان التی صلّى فیها صلاة الخوف بعسفان کانت بعد بنی قریظة.
و قد ذکر الواقدی باسناده عن خالد بن الولید قال: لمّا خرج رسول الله (ص) الى الحدیبیة لقیته بعسفان، فوقفت بازائه و تعرضت له، فصلّى بأصحابه الظهر أمامنا، فهممنا أن نغیر علیه ثم لم یغرم لنا، فأطلق الله على ما فی أنفسنا من الهمّ به، فصلّى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف.
ثم قال ابن کثیر: قلت و عمرة الحدیبیة کانت فی ذی القعدة سنة ست بعد الخندق و بنی قریظة کما سیأتی، و فی سیاق حدیث أبی عیّاش الزرقی ما یقتضی انّ آیة صلاة الخوف نزلت فی هذه الغزوة یوم عسفان، فاقتضى ذلک انّها أوّل صلاة خوف صلّاها. و الله أعلم.
و سنذکر إن شاء الله تعالى کیفیة صلاة الخوف و اختلاف الروایات فیها فی کتاب الأحکام الکبیر إن شاء الله، انتهى.
قال ابن هشام(2): قال ابن إسحاق: ثم قام رسول الله (ص) بالمدینة بعد غزوة بنی النضیر شهر ربیع الآخر و بعض جمادى، ثم غزا نجدا یرید بنی محارب و بنی ثعلبة، و استعمل على المدینة أباذر الغفاری … الخ
و قال محمد بن سعد(3): ثم غزوة رسول الله (ص) ذات الرقاع فی المحرّم على رأس سبعة و أربعین شهرا من مهاجره (ص) قالوا: قدم قادم المدینة بجلب له فأخبر أصحاب رسول الله انّ أنمارا و ثعلبة قد جمعوا لهم، فبلغ ذلک رسول الله (ص) فاستخلف على المدینة عثمان بن
عفّان، و خرج لیلة السبت لعشر خلون من المحرّم فی أربعمائة من أصحابه و یقال سبعمائة، فمضى (ص) حتّى أتى محالّهم بذات الرقاع، و هو جبل فیه بقع حمرة و سواد و بیاض قریب من النخیل بین السعد و الشقرة، فلم یجد فی محالّهم أحدا إلّا نسوة، فأخذهنّ و فیهنّ جاریة وضیئة، و هربت الأعراب الى رؤوس الجبال، و حضرت الصلاة فخاف المسلمون أن یغیروا علیهم، فصلّى رسول الله (ص) صلاة الخوف، فکان ذلک أوّل ما صلّاها و انصرف رسول الله (ص) راجعا الى المدینة فابتاع من جابر بن عبد الله فی سفره ذلک جمله بأوقیة و شرط له ظهره الى المدینة و سأله عن دین أبیه و أخبره به فاستغفر له رسول الله (ص) فی تلک اللیلة خمسا و عشرین مرّة، و بعث رسول الله (ص) حجال بن سراقة بشیرا لسلامته و سلامة المسلمین، و قدم صرارا یوم الأحد لخمس لیال بقین من المحرّم، و صرار على ثلاثة أمیال من المدینة، و هی بئر جاهلیة على الطریق، و غاب خمس عشرة لیلة.
ثم روى باسناده عن جابر بن عبد الله قال: أقبلنا مع رسول الله (ص) حتّى إذا کنّا بذات الرقاع، کنّا إذا أتینا على شجرة ظلیلة ترکناها لرسول الله (ص). قال: فجاء رجل من المشرکین و سیف رسول الله (ص) معلّق بشجرة، فأخذه فاخترطه- أی سلّه من غمده- و قال لرسول الله: أتخافنی؟ قال: لا. قال: فمن یمنعک منّی؟ قال: الله یمنعنی منک. قال: فتهدّده أصحاب رسول الله (ص) فأغمد السیف و علّقه. قال: فنودی بالصلاة. قال: فصلّى (ص) بطائفة رکعتین، ثم تأخّروا و صلّى بالطائفة الأخرى رکعتین، فکانت لرسول الله (ص) أربع رکعات و للقوم رکعتان، انتهى.
و قال ابن الأثیر(4): و قد اختلف الرواة فی صلاة الخوف، و هو مستقصى فی کتب الفقه … الخ.
و روى الطبری(5): باسناده عن أبی هریرة قال: خرجنا مع رسول الله (ص) الى نجد حتّى إذا کنّا بذات الرقاع من نخل لقی جمعا من غطفان، فلم یکن بیننا قتال إلّا انّ الناس قد خافوا
و نزلت صلاة الخوف، فصدع أصحابه صدعین، فقامت طائفة مواجهة العدوّ و قامت طائفة خلف رسول الله، فکبّر رسول الله (ص) فکبّروا جمیعا، ثم رکع بمن خلفه و سجد بهم، فلمّا قاموا مشوا القهقرى الى مصاف أصحابهم، و رجع الآخرون فصلّوا لأنفسهم رکعة، ثم قاموا فصلّى بهم رسول الله (ص) رکعة و جلسوا، و رجع الذین کانوا مواجهین العدوّ فصلّوا الرکعة الثانیة، فجلسوا فجمعهم رسول الله (ص) بالسلام فسلّم علیهم.
ثم قال: و قد اختلف الرواة فی صفة صلاة رسول الله (ص) هذه الصلاة ببطن نخل اختلافا متفاوتا کرهت ذکرها فی هذا الموضع خشیة إطالة الکتاب، و سأذکرها انشاء الله فی کتابنا المسمّى بسیط القول فی أحکام شرائع الإسلام فی کتاب صلاة الخوف منه.
ثم روى باسناده عن سلیمان الیشکری انّه سأل جابر بن عبد الله عن اقصار الصلاة أیّ یوم أنزل أو فی أیّ یوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا ملتقى عیر قریش آتیة من الشام، حتّى إذا کنّا بنخل جاء رجل من القوم الى رسول الله (ص) فقال: یا محمد. قال: نعم. قال: هل تخافنی؟ قال: لا. قال: فمن یمنعک منّی؟ قال: الله یمنعنی منک، قال: فسلّ السیف ثم تهدّده و أوعده، ثم نادى بالرحیل و أخذ السلاح، ثم نودی بالصلاة، فصلّى نبیّ الله (ص) بطائفة من القوم و طائفة أخرى تحرسهم، فصلّى بالذین یلونه رکعتین، ثم تأخّر الذین یلونه على أعقابهم، فقاموا فی مصاف أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلّى بهم رکعتین و الآخرون یحرسونهم، فسلّم فکانت للنبی (ص) أربع رکعات و للقوم رکعتین رکعتین، فیومئذ أنزل الله عزّ و جلّ فی اقصار الصلاة و أمر المؤمنین بأخذ السلاح … الخ.
قال ابن هشام(6): و انّما قیل لها غزوة «ذات الرقاع» لأنهم رقعوا فیها رایاتهم، و یقال ذات الرقاع شجرة بذلک الموضع یقال لها ذات الرقاع.
ثم قال: قال ابن إسحاق: فلقى بها جمعا عظیما من غطفان، فتقارب الناس و لم یکن بینهم حرب، و قد خاف الناس بعضهم بعضا حتّى صلّى رسول الله (ص) بالناس صلاة الخوف.
ثم روى ابن هشام باسناده عن جابر بن عبد الله فی صلاة الخوف، قال: صلّى رسول الله (ص) صلاة الخوف ثم انصرف بالناس.
ثم قال ابن هشام: انّ النبی (ص) صلّى بطائفة رکعتین ثم سلّم و طائفة مقبلون على العدوّ. قال: فجاؤا فصلّى بهم رکعتین أخریین ثم سلّم.
ثم روى باسناده عن جابر أیضا انّه قال: صفّنا رسول الله (ص) صفّین، فرکع بنا جمیعا ثم سجد رسول الله و سجد الصف الأوّل، فلمّا رفعوا سجد الذین یلونهم بأنفسهم، ثم تأخر الصف الأوّل و تقدم الصف الآخر حتّى قاموا مقامهم، ثم رکع النبی (ص) بهم جمیعا، ثم سجد النبی و سجد الذین یلونه معه، فلمّا رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون بأنفسهم، فرکع النبی بهم جمیعا و سجد کلّ واحد منهما بأنفسهم سجدتین … الخ.
و روى أیضا باسناده عن عبد الله بن عمر قال: یقوم الإمام و تقوم معه طائفة و طائفة ممّا یلی عدوّهم، فیرجع بهم الإمام و یسجد بهم ثم یتأخّرون فیکونون ممّا یلی العدوّ، و یتقدّم الآخرون فیرجع بهم الإمام رکعة و یسجد بهم، ثم تصلّی کل طائفة بأنفسهم رکعة، فکانت لهم مع الإمام رکعة رکعة و صلّوا بأنفسهم رکعة رکعة … الخ.
و قال الحلبی(7): فصلّى (ص) صلاة العصر صلاة الخوف، و کان العدوّ فی غیر جهة القبلة، ففرّقهم فرقتین فرقة وقفت فی وجه العدوّ و فرقة صلّى بها رکعة، عند قیامه للثانیة فارقته و أتمّت بقیّة صلاتها، ثم جاءت و وقفت بها فی وجه العدوّ و جاءت تلک الفرقة التی کانت فی وجه العدوّ و اقتدت به فی الثانیة، فصلّى بها رکعة ثم قامت و هو فی جلوس التشهد و أتمت بقیّة صلاتها و لحقته فی جلوس التشهد و سلّم بها.
و هذه الکیفیة فی ذات الرقاع رواها الشیخان و نزل بها القرآن، و هو قوله تعالى «وَ إِذا کُنْتَ فِیهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ» الآیة.
و فی کلام بعضهم: فصلّى بهم النبی (ص) صلاة الخوف، صلّى بطائفة رکعتین و بالأخرى
أخریین. و سیأتی انّ هذه صلاته ببطن نخل.
و فی الخصائص الصغرى: و خصّ (ص) بصلاة الخوف، و لم تشرع لأحد من الأمم قبلنا، و بصلاة شدّة الخوف عند التحام القتال … الخ.
و قال الجصاص(8): قال الله تعالى «وَ إِذا کُنْتَ فِیهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَکَ» الآیة. قال: قد روی عن النبی (ص) صلاة الخوف على ضروب مختلفة، و اختلف فقهاء الأمصار فیها، فقال أبو حنیفة و محمد: تقوم طائفة بإزاء العدوّ فیصلّی بهم رکعة و سجدتین ثم ینصرفون الى مقام أصحابهم، ثم تأتی الطائفة التی بإزاء العدوّ فیقضون رکعة بغیر قراءة و تشهّدوا و سلّموا و ذهبوا الى وجه العدوّ، ثم تأتی الطائفة الأخرى فیقضون رکعة و سجدتین بقراءة. و قال ابن أبی لیلى: إذا کان العدوّ بینه و بین القبلة جعل الناس طائفتین، فیکبّر و یکبّرون و یرکع و یرکعون جمیعا معه، و سجد الإمام و الصف الأوّل، و یقوم الصف الآخر فی وجوه العدوّ، فاذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخّر، فاذا فرغوا من سجودهم قاموا و تقدّم الصف المؤخّر و تأخر الصف المقدّم، فیصلّی بهم الإمام الرکعة الأخرى کذلک، و إن کان العدوّ فی دبر القبلة قام الإمام و معه صفّ مستقبل القبلة و الصف الآخر مستقبل العدوّ، فیکبّر و یکبّرون جمیعا و یرکع و یرکعون جمیعا ثم یسجد الصف الذی مع الإمام سجدتین، ثم ینقلبون فیکونون مستقبل العدوّ، ثم یجیء الآخرون فیسجدون و یصلّی بهم الإمام جمیعا الرکعة الثانیة فیرکعون جمیعا و یسجد الصف الذی معه، ثم ینقلبون الى وجه العدوّ و یجیء الآخرون فیسجدون معه و یفرغون، ثم یسلّم الإمام و هم جمیعا.
قال أبو بکر: و روى عن أبی یوسف فی صلاة الخوف ثلاث روایات: إحداها مثل قول أبی حنیفة و محمد، و الأخرى مثل قول ابن أبی لیلى إذا کان العدوّ فی القبلة و إذا کان فی غیر القبلة فمثل قول أبی حنیفة، و الثالثة انّه لا تصلّى بعد النبی (ص) صلاة الخوف بإمام واحد و انّما تصلّى بإمامین کسائر الصلوات. و روى عن الثوری مثل قول أبی حنیفة، و روى أیضا مثل
قول ابن أبی لیلى، و قال: إن فعلت کذلک جاز. و قال مالک: یتقدّم الإمام بطائفة و طائفة بإزاء العدوّ، فیصلّی بهم رکعة و سجدتین و یقوم قائما و تتم الطائفة التی معه لأنفسها رکعة أخرى، ثم یتشهّدون و یسلّمون، ثم یذهبون الى مکان الطائفة التی لم تصلّ فیقومون مکانهم و تأتی الطائفة الأخرى، فیصلّی بهم رکعة و سجدتین ثم یتشهّدون و یسلّم و یقومون فیتمّون لأنفسهم الرکعة التی بقیت.
قال ابن القاسم: کان مالک یقول: لا یسلّم الإمام حتّى تتم الطائفة الثانیة لأنفسها ثم یسلّم بهم، لحدیث یزید بن رومان، ثم رجع الى حدیث القاسم، و فیه: انّ الإمام یسلّم ثم تقوم الطائفة الثانیة فیقضون.
و قال الشافعی مثل قول مالک، إلّا انّه قال: الإمام لا یسلّم حتّى تتم الطائفة الثانیة لأنفسها ثم یسلّم بهم.
و قال الحسن بن صالح مثل قول أبی حنیفة، إلّا انّه قال: الطائفة الثانیة إذا صلّت مع الإمام و سلّم الإمام قضت لأنفسها الرکعة التی لم یصلّوها مع الإمام، ثم تنصرف و تجیء الطائفة الأولى فتقضی بقیّة صلاتها. قال أبو بکر: أشدّ هذه الأقاویل موافقة لظاهر الآیة قول أبی حنیفة و محمد، و ذلک لأنّه تعالى قال «وَ إِذا کُنْتَ فِیهِمْ» الآیة. الى أن قال: و ممّا یدل من جهة السنّة على ما وصفناه: ما حدّثنا محمد بن بکر، قال حدّثنا مسدد، قال حدّثنا یزید بن ذریع، عن معمر، عن الزهری، عن سالم، عن أبیه: انّ رسول الله (ص) صلّى بإحدى الطائفتین رکعة و الطائفة الأخرى مواجهة العدوّ، ثم انصرفوا و قاموا فی مقام أولئک، و جاء أولئک فصلّى بهم رکعة أخرى ثم سلّم علیهم، ثم قام هؤلاء فقضوا رکعتهم و قام هؤلاء فقضوا رکعتهم. قال أبو داود: کذلک رواه نافع و خالد بن معدان عن ابن عمر عن النبی (ص)، و قال أبو داود: و کذلک قول مسروق و یوسف بن مهران عن ابن عباس و کذلک روى یونس عن الحسن عن أبی موسى انّه فعله، و قول ابن عمر: فقضى هؤلاء رکعة و هؤلاء رکعة، على انّهم قضوا على وجه یجوز القضاء، و هو أن ترجع الثانیة الى مقام الأوّل. و جاءت فقضت رکعة و سلّمت ثم جاءت الثانیة فقضت رکعة و سلّمت و قد بیّن ذلک فی حدیث خصیف عن أبی عبیدة عن
عبد الله انّ رسول الله (ص) صلّى فی حرّة بنی سالم صلاة الخوف، قام فاستقبل القبلة و کان العدوّ فی غیر القبلة، فصفّ معه صفا، و أخذ صف السلاح و استقبلوا العدوّ، فکبّر رسول الله (ص) و الصف الذی معه، ثم رکع و رکع الصف الذی معه، ثم تحوّل الصف الذین صفّوا مع النبی (ص)، فأخذوا السلاح و تحوّل الآخرون، فقاموا مع النبی، فرکع النبی و رکعوا و سجد و سجدوا، ثم سلّم النبی (ص) فذهب الذین صلّوا معه، و جاء الآخرون فقضوا رکعة، فلمّا فرغوا أخذوا السلاح، و تحوّل الآخرون و صلّوا رکعة، فکان للنبی (ص) رکعتان و للقوم رکعة رکعة فبیّن هذا الحدیث انصراف الطائفة الثانیة قبل قضاء الرکعة الأولى، و هو معنى ما أجمله ابن عمر فی حدیثه.
و قد روى فی حدیث عبد الله بن مسعود من روایة ابن فضیل عن خصیف عن أبی عبیدة عن عبد الله انّ الطائفة الثانیة قضت رکعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الرکعة التی بقیت علیها، و الصحیح ما ذکرناه أولا، لأن الطائفة الأولى قد أدرکت أول الصلاة و الثانیة لم تدرک، فغیر جائز للثانیة الخروج من صلاتها قبل الأولى، و لأنه لمّا کان من حکم الطائفة الأولى أن تصلّی الرکعتین فی مقامین فکذلک حکم الثانیة أن تقضیها فی مقامین لا فی مقام واحد، لأنّ سبیل صلاة الخوف أن تکون مقسومة بین الطائفتین على التعدیل بینهما فیها.
و احتج مالک بحدیث رواه عن یزید بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبی (ص) و ذکر فیه أن الطائفة الأولى صلّت الرکعة الثانیة قبل أن یصلّیها رسول الله (ص). و هذا لم یروه أحد إلّا یزید بن رومان، و قد خولف فیه، فروى شعبة عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبیه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبی خیثمة: انّ رسول الله (ص) صلّى بهم صلاة الخوف، فصفّ صفّا خلفه و صفّ صفّا مصاف العدوّ، فصلّى بهم رکعة ثم ذهب هؤلاء و جاء أولئک، فصلّى بهم رکعة ثم قاموا فقضوا رکعة رکعة، ففی هذا الحدیث انّ الطائفة الأولى لم تقض الرکعة الثانیة إلّا بعد خروج رسول الله (ص) من صلاته. و هذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول علیه.
و قد روى یحیى بن سعید عن القاسم عن صالح مثل روایة یزید بن رومان.
و فی حدیث مالک عن یزید بن رومان انّ تلک الصلاة انّما کانت من رسول الله (ص) بذات
الرقاع، و قد روى یحیى بن کثیر عن أبی سلمة عن جابر قال: کنّا مع رسول الله (ص) بذات الرقاع فصلّى رسول الله بطائفة منهم رکعتین ثم انصرفوا، و جاء الآخرون فصلّى بهم رکعتین، فصلّى رسول الله (ص) أربعا و کل طائفة رکعتین و هذا یدلّ على اضطراب حدیث یزید بن رومان.
و قد روى عن النبی (ص) صلاة الخوف على وجوه أخر، فاتّفق ابن مسعود و ابن عباس و ابن عمر و جابر و حذیفة و زید بن ثابت انّ النبی (ص) صلّى بإحدى الطائفتین رکعة و الطائفة الأخرى مواجهون العدوّ، ثم صلّى بالطائفة الأخرى رکعة، و انّ أحدا منهم لم یقض بقیة صلاته قبل فراغ رسول الله (ص).
و روى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فیه ممّا قدّمنا ذکره.
و روى ابن عیاش الزرقی عن النبی (ص) فی صلاة الخوف نحو المذهب الذی حکیناه عن أبی لیلى و أبی یوسف إذا کان العدوّ فی القبلة، و روى أیوب و هشام عن أبی الزبیر عن جابر هذا المعنى عن النبی (ص)، و کذلک رواه داود بن حصین عن عکرمة عن ابن عباس، و کذلک عبد الملک عن عطاء عن جابر، و کذلک قتادة عن الحسن عن حطان عن أبی موسى من فعله، و رواه عکرمة بن خالد عن مجاهد عن النبی (ص)، و کذلک هشام بن عروة عن النبی. و قد روى عن ابن عباس و جابر ما قدّمنا ذکره قبل هذا، و اختلفت الروایة عنهما فیها.
و روى فیها نوع آخر و هو ما حدّثنا محمد بن بکر، قال حدّثنا أبو داود، قال حدّثنا الحسن بن علی، قال حدّثنا أبو عبد الرحمن المقری، قال حدّثنا حیوة بن شریح و ابن لهیعة، قالا: أخبرنا أبو الأسود انّه سمع عروة بن الزبیر یحدّث عن مروان بن الحکم انّه سأل أبا هریرة: هل صلّیت مع رسول الله (ص) صلاة الخوف، فقال أبو هریرة: نعم. قال مروان: متى؟ فقال أبو هریرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله (ص) الى صلاة العصر، فقامت معه طائفة و طائفة أخرى مقابل العدوّ و ظهورهم الى القبلة فکبّر رسول الله (ص) فکبّروا جمیعا الذین معه و الذین مقابلی العدوّ، ثم رکع رسول الله رکعة واحدة و رکعت الطائفة التی معه، ثم سجد رسول الله فسجدت الطائفة التی تلیه و الآخرون قیام فی مقابلی العدوّ، ثم قام رسول الله (ص)
و قامت الطائفة التی معه، فذهبوا الى العدوّ فقاتلوهم و أقبلت الطائفة التی کانت مقابلی العدوّ فرکعوا و سجدوا و رسول الله قائم کما هو، ثم قاموا فرکع رسول الله رکعة أخرى و رکعوا معه و سجد و سجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التی کانت مقابلی العدوّ فرکعوا و سجدوا و رسول الله قاعد و من معه، ثم کان السلام، فسلّم رسول الله (ص) و سلّموا جمیعا، فکان لرسول الله رکعتان و لکلّ رجل من الطائفتین رکعة رکعة.
و قد روى عنه (ص) نوع آخر من صلاة الخوف، و هو ما حدّثنا محمد بن بکر، قال حدّثنا أبو داود، قال حدّثنا عبید الله بن معاذ، قال حدّثنا أبی، قال حدّثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبی بکرة قال: صلّى رسول الله (ص) فی خوف الظهر، فصفّ بعضهم خلفه و بعضهم بإزاء العدوّ، فصّلى رکعتین ثم سلّم، فانطلق الذین صلّوا فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئک فصلّوا خلفه، فصلّى بهم رکعتین ثم سلّم فکانت لرسول الله أربعا و لأصحابه رکعتین رکعتین، و بذلک کان یفتی الحسن. قال أبو داود: و کذلک یحیى بن أبی کثیر عن أبی سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبی (ص) و کذلک رواه سلیمان الیشکری عن جابر بن عبد الله عن النبی (ص).
قال أبو بکر: و قدمنا قبل ذلک انّ ابن عباس و جابرا رویا عن النبی (ص) انّه صلّى بکل طائفة رکعة رکعة، فکان لرسول الله رکعتان و لکل طائفة رکعة و انّ هذا محمول عندنا على أنّه کان رکعة فی جماعة و فعلها مع رسول الله (ص)، فذهب ابن أبی لیلى و أبو یوسف إذا کان العدوّ فی القبلة الى حدیث أبی عیّاش الزرقی الذی ذکرناه و جائز أن یکون النبی (ص) قد صلّى هذه الصلوات على الوجوه التی وردت به الروایات، و ذلک لأنها لم تکن صلاة واحدة فتضاد الروایات فیها و تتنافى، بل کانت صلوات فی مواضع مختلفة بعسفان فی حدیث أبی عیاش الزرقی و فی حدیث جابر ببطن النخل، و منها حدیث أبی هریرة فی غزوة نجد، و ذکر فیه انّ الصلاة کان بذات الرقاع و صلّاها فی حرة بنی سلیم. و یشبه أن یکون قد صلّى فی بعض هذه المواضع عدّة صلوات، لأنّ فی بعض حدیث جابر الذی یقول فیه: انّ النبی (ص) صلّى بکل طائفة رکعتین، ذکر انّه کان بذات الرقاع، و فی حدیث صالح بن خوات أیضا انّه صلّاها بذات الرقاع، و هما مختلفان کل واحد منهما ذکر فیه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى، و کذلک
حدیث أبی عیاش الزرقی ذکر انّه صلّاها بعسفان.
و ذکر ابن عباس أیضا انّه صلّاها، فروى تارة نحو حدیث ابن عیاش و تارة على خلافه. و اختلاف هذه الآثار تدلّ على انّ النبی (ص) قد صلّى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروایات بها، و على ما رآه النبی (ص) احتیاطا فی الوقت من کید العدوّ و ما هو أقرب الى الحذر و التحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر فی قوله وَ لْیَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِینَ کَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِکُمْ وَ أَمْتِعَتِکُمْ فَیَمِیلُونَ عَلَیْکُمْ مَیْلَةً واحِدَةً و لذلک کان الاجتهاد سائغا فی جمیع أقاویل الفقهاء على اختلافها، لمّا روى عن النبی (ص) فیها إلّا انّ الأولى عندنا ما وافق ظاهر الکتاب و الأصول، و جائز أن یکون الثابت الحکم منها واحد و الباقی منسوخ، و جائز أن یکون الجمیع ثابتا غیر منسوخ لئلا یخرج من ذهب الى بعضها و یکون الکلام فی الأفضل منها.
الى أن قال: باب الاختلاف فی صلاة المغرب، قال أبو حنیفة و أبو یوسف و محمد و زفر و مالک و الحسن بن صالح و الأوزاعی و الشافعی یصلّی بالطائفة الأولى رکعتین و بالطائفة الثانیة رکعة، إلّا انّ مالکا و الشافعی یقولان یقوم الإمام قائما حتّى یتمّوا لأنفسهم، ثم یصلّی بالطائفة الثانیة رکعة أخرى ثم یسلّم الإمام، و تقوم الطائفة الثانیة فیقضون رکعتین. و قال الشافعی: إن شاء الإمام ثبت جالسا حتّى تتمّ الطائفة الأولى لأنفسهم و إن شاء کان قائما، و یسلّم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانیة. و قال الثوری: یقوم صفّ خلفه و صفّ موازی العدوّ فیصلّی بهم رکعة ثم یذهبون الى مقام أولئک و یجیء هؤلاء فیصلّی بهم و یجلسون، فاذا قام ذهب هؤلاء الى مصاف أولئک و جاء أولئک فرکعوا و سجدوا و الإمام قائم، لانّ قراءة الإمام لهم قراءة، و جلسوا ثم قاموا یصلّون مع الإمام الرکعة الثالثة، فاذا جلسوا و سلّم الإمام ذهبوا الى مصاف أولئک و جاء الآخرون فصلّوا رکعتین، و ذهب فی ذلک الى انّ علیه التعدیل بین الطائفتین فی الصلاة فیصلّی بکل واحدة رکعة. و قد ترک هذا المعنی حین جعل للطائفة الأولى أن تصلّی مع الإمام الرکعة الأولى و الثالثة و الطائفة الثانیة انّما صلّت الرکعة الثانیة معه.
و قال الثوری: انّه إذا کان مقیما فصلّى بهم الظهر انّه یصلّی بالطائفة الأولى رکعتین و بالثانیة
رکعتین فلم یقسم الصلاة بینهم على أن یصلّی کل طائفة منهم معه رکعة على حیالها. و مذهب الثوری هذا مخالف للأصول من وجه آخر، و ذلک انّه أمر الإمام أن یقوم قائما حتّى تفرغ الطائفة الأولى من الرکعة الثانیة، و ذلک خلاف الأصول على ما بیّنا فیما سلف من مذهب مالک و الشافعی. و الله أعلم بالصواب.
انتهى ما نقله أبو بکر أحمد بن علی الرازی الجصّاص فی کتاب «أحکام القرآن».
1) السیرة النبویة 3/ 156.
2) السیرة النبویة 3/ 213.
3) الطبقات الکبرى 2/ 61.
4) الکامل 2/ 174.
5) تاریخ الطبری 2/ 556.
6) السیرة النبویة 2/ 214.
7) السیرة للحلبی 2/ 271.
8) احکام القرآن 2/ 257.