ثم قال و قد قسّم رسول الله (ص) غنائم خیبر، فأعطى الراجل سهما و الفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمّسها خمسة أجزاء، ثم دفع لأهل خیبر الأرض لیعملوا فیها بشطر ما یخرج منها من ثمر أو زرع، و قال لهم: انّا إذا شئنا أن نخرجکم أخرجناکم. ثم استمرّوا على ذلک الى خلافة عمر، الى أن وقعت منهم خیانة و غدر لبعض المسلمین، فأجلاهم الى الشام بعد أن استشار فی ذلک الصحابة.
ثم قال: و لمّا انصرف رسول الله (ص) من خیبر فکان ببعض الطریق، فلمّا کان آخر اللیل قال: من رجل یحفظ علینا الفجر لعلّنا ننام. قال بلال: أنا یا رسول الله أحفظه علیک، فنزل رسول الله (ص) و نزل الناس فناموا، و قام بلال یصلّی، فصلّى ما شاء الله أن یصلّی، ثم استند الى بعیره و استقبل الفجر یرمقه فغلبته عینه فنام فلم یوقظهم إلّا مس الشمس، و کان رسول الله (ص) أول أصحابه هبا (أی استیقاظا)، فقال: ماذا صنعت یا بلال؟ قال: یا رسول الله أخذ بنفسی الذی أخذ بنفسک. قال: صدقت. ثم اقتاد رسول الله (ص) بعیره غیر کثیر، ثم أناخ فتوضّأ و توضّأ الناس، ثم أمر بلالا فأقام الصلاة فصلّى رسول الله بالناس، فلمّا سلّم أقبل على الناس فقال: إذا نسیتم الصلاة فصلّوها إذا ذکرتموها، فانّ الله تبارک و تعالى یقول أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِکْرِی ثم قال: و کان فتح خیبر فی صفر، انتهى.
أقول: و هکذا رواه ابن کثیر(1): عن الزهری عن سعید بن المسیّب، و انّهم ناموا عن صلاة الصبح مرجعهم من خیبر، و انّ رسول الله (ص) کان أوّلهم استیقاظا. ثم نقل أقوالا أخر، و انّ ابن مسعود قال: کان ذلک مرجعهم من الحدیبیة. ثم نقل عن البیهقی انّه قال: فیحتمل انّ ذلک کان مرّتین، و نقل أیضا عن ابن مسعود انّ ذلک کان مرجعهم من تبوک … الخ. و مع ذلک کلّه لم یثبت نومه (ص) عن الصلاة و إن ذکره القوم بأسانید متعدّدة.
و قال الواقدی: ثم نودی فی الناس بالرحیل الى المدینة، فأمر رسول الله (ص) صفیّة أن ترکب خلفه. الى أن قال: و أخذ رسول الله (ص) یصلح ملحفتها علیها و أصحابه ینظرون إلیه، یقول بعضهم لبعض: انظروا الى نبی الله، فإن أمرها فغطّت وجهها فهی من أمهات المؤمنین فلا تسایروه، و کان رسول الله شدید الغیرة، ثم قال: فأمرها رسول الله (ص) بعد ما رکبت فغطّت وجهها، ثم سار و سار الناس، فأقبل رجل من بنی سلیم یقال له الحجاج بن غلاظ و کان قد شهد مع رسول الله فتح خیبر فاستأذنه الى مکة، فقال: یا رسول الله انّ لی مالا حسنا بمکة عند امرأتی و انّها إن تعلم بإسلامی تذهب بمالی و تحته یومئذ ام حجر بنت شیبة حاجب الکعبة و کان رجلا غنیّا و کان له المعدن الذی بنجران بأرض بنی سلیم، فأذن له رسول الله (ص)، ثم قال: یا رسول الله جعلنی الله فداک ائذن لی أن أنال منک و أنعاک لأهل مکة لعلّی أغرّهم بذلک قبل أن یعلموا بإسلامی، فأذن له، فانطلق الحجاج على نجیبة له فأسرع به السیر لا یلوی على شیء حتّى قدم مکة، و کان أهل مکة قبل أن یقدم علیهم الحجاج قد تبایعوا بموال عظام أجلها الى أن یقضی الله بین محمد و أهل خیبر، و قالوا: قد استورد محمد و أصحابه حراما قطیعا أهل خیبر و الحلیفین أسد و غطفان، ثم القموص حصنا منیعا لیس کنحو ما کان محمد یغوی من قبائل العرب، و لم یکونوا یرون أن ینقضی شأن نبی الله و أهل خیبر. فلمّا قدم علیهم الحجاج خرجوا یشتدّون إلیه حتّى امتلأت الدار منهم، و قالوا: أخبرنا ما وراءک یا حجاج قال: عندی من الخبر الذی یسرّکم، شهدت قتال محمد و أهل خیبر، فاقتتلوا قتالا شدیدا فحال أصحاب محمد عنه فأخذته الیهود أخذا، فقالوا: لن نقتله حتّى نبلغه أهل مکة فینظروا إلیه ثم نقتله بسیّدنا حییّ بن أخطب. ففرح أهل مکة فرحا شدیدا لم یفرح الناس قط فخرج نساؤهم و رجالهم و عذارهم الى المسجد یغسلون لآلهتهم الخبیثة شامتین بالذی لقی محمد و أصحابه من الیهود، و لا یشکّون انّ ذلک حق، و انقبع کل مؤمن و مؤمنة بمکة فدخلوا دورهم کانّما على رؤوسهم الطیر، فبلغ ذلک العباس بن عبد المطلب فأراد القیام فلم تحمله رجلاه و ألقى بالأرض، فعرف العباس انّه سیؤتى فی داره من بین شامت و مسلم مکروب یرجو أن یکون عند عباس خبر هو خیر من الذی بلغهم. فأمر
عباس بباب داره ففتح، ثم أمر بابن له صغیر یقال له قثم جعله على صدره، ثم جعل یرتجز و یقول:
یا بنی قثم
شیبة ذی الکرم
ذی الأنف الأشم
تردى بالنعم
یزعم من زعم
فجعل لا یدخل دار العباس أحد إلّا سمع قول العباس لابنه، فخرجوا و قالوا: لو کان فی هذا الخبر شیء لکان للعباس حال سوى الذی نراه علیه، فلمّا خلت دار العباس من الناس و انتصف النهار دعا العباس غلاما له یقال له أبو زبیبة فقال یا أبا زبیبة ائت الحجاج بن غلاظ فقل له: انّ العباس یقرء علیک السلام و یقول: الله أجلّ و أکرم من أن یکون الذی حدّثت عن نبیّه حقا. فانطلق أبو زبیبة فأتى الحجاج و هو فی داره و عنده ناس کثیر من أهل مکة، فبلّغه رسالة العباس، فقام له الحجاج و خلا به و قال: یا أبا زبیبة اقرأ على أبی الفضل السلام و مره فلیخل بعض بیوته ظهرا حتّى آتیه حین لا یرانی أحد فانّ عندی من الخبر الذی یسرّه. فانطلق أبو زبیبة فرحا یسعى حتّى انتهى الى باب العباس، فجعل قبل أن یدخل الدار ناداه و هو على الباب: أن ابشر یا أبا الفضل فانّ الحجاج یأتیک الآن و عنده من الخبر الذی یسرّک. فقام العباس کانّه لم یر شرّا قط و لم یسمعه، فاعتنق أبا زبیبة فقبّل رأسه، ثم اعتقه قبل أن یقعد، و خلا فی بعض بیوته حتّى أتاه الحجاج ظهرا، فقال له العباس: ویلک یا حجاج ما هذا الخبر الذی أخبرت؟ فقال: عندی من الخبر الذی یسرّک إن کتمت علیّ. قال له العباس: فلک علیّ الکتمان. فأخذ الحجاج المواثیق علیه لیکتم خبره الذی یخبره یومه ذاک حتّى یصبح، فأعطاه العباس المواثیق، فقال له الحجاج: یا عباس انّ أول ما أخبرک به انّی أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شریک له و انّ محمدا عبده و رسوله ثم انّی أخبرک انّی شهدت مع رسول الله فتح خیبر، و ترکت رسول الله عروسا بصفیّة بنت حییّ بن أخطب، و قتل رسول الله (ص) ابنی أبی الحقیق صبرا، و قسّم رسول الله أموال أهل خیبر و أرضهم بین المهاجرین و الأنصار، و انّی استأذنت رسول الله فی هذا الخبر فأذن لی ارادة أن أحرز مالی الذی عند امرأتی مخافة أن تعلم
بإسلامی و تذهب بمالی، فانّی أرید أن أدلج اللیلة إنشاء الله إن أخذت مالی.
فخرج الحجاج فلحق بداره، فمکث العباس بداره حتّى أمسى و قریش حول الکعبة یصلّون لآلهتهم و یدعونها شامتین بمحمد و أصحابه، فجعل العباس یجول فی داره لا یرقد ممّا یرى فی قریش من الشماتة و قرّة العین فی أنفسهم، حتّى أصبح و طلعت الشمس، و انطلق الحجاج حین أمسى الى امرأته فقال لها: لا تطّلعی أحد على ما أحدّثک، فانّی ترکت محمدا ینوعا هینا مما غنم أهل خیبر من محمد، و أرید أن أدلج اللیلة مخافة أن تسبقنی التجّار. فأعطته المال، فلما اعتمّ أدلج فأصبح و قد خلف مکة أرضا نائیة، و أصبح العباس فلبس بردته ثم عمد الى امرأة الحجاج فدعاها إلیه، فسألها عن الحجاج فحدّثته و هی کهیئة الحزینة بحزن العباس، قالت: أدلج اللیلة لیشتری مما غنم أهل خیبر من محمد و أصحابه. و قال لها العباس: أیّتها المرأة المغرورة الحمقاء إن کان لک فی زوجک حاجة فادرکیه فانّه و الله قد أسلم و هاجر و لحق بمحمد و لکنّه قال الذی قال لیحرز ماله مخافة منک و من أهلک. قالت: یا ابن عم و الله ما أراک إلّا صادقا، فمن أخبرک هذا؟ قال: الحجاج أخبرنیه. فانطلقت الى أهلها تلطم وجهها و تدعو بالویل و تعثر مرّة و تقوم أخرى، و انطلق حین دخل المسجد و المشرکون حول الکعبة، فلمّا أبصروا العباس تغامزوا به و وقعوا حینئذ فی رسول الله (ص) و أصحابه یعیّرونهم بالسحر و الکذب، فلما انتهى إلیهم العباس قال: هل أتاکم الخبر؟ قالوا: نعم قد أتانا الخبر الذی أتاک، لا یشکّ فیه أحد من الناس. قال: لعمر الله ما فی الخبر من شک فاقتصدوا فی القول، فانّی أشهد أن قد جرت سهام الله و رسوله و المؤمنین فی أموال أهل خیبر و أراضیهم، و ضرب رسول الله (ص) أعناق ابنی أبی الحقیق صبرا، و ترک رسول الله عروسا بصفیّة بنت حییّ بن أخطب. قالوا: فنحن نشهد انّک کاذب، فمن الذی أخبرک بالخبر أخذت من خبر الحجاج. قال: الحجاج أخبرنی الخبر و قد أسلم و هاجر و لحق بمحمد، و قد أخبر امرأته خبره، فخرج رهط من المشرکین الى امرأة الحجاج فعلّموها خبر العباس فوجدوا امرأة الحجاج حزینة تبکی. فسألوها عن زوجها فأخبرتهم انّه قد أسلم و هاجر و لحق بمحمد، فرجعوا إلى أصحابهم فأخبروهم بالذی أخبرتهم امرأة الحجاج و بالذی رأوا فی وجهها من الحزن، فردّ الله الکرب
و الحزن الذی کان بالمؤمنین على المشرکین.
1) السیرة النبویة 3/ 403.