قال ابن الأثیر(1): لمّا عاد رسول الله (ص) من خیبر أقام بالمدینة جمادین و رجب و شعبان و رمضان و شوالا یبعث السرایا، ثم خرج فی ذی الحجة معتمرا عمرة القضاء، و ساق معه سبعین بدنة، و خرج معه المسلمون ممن کان معه فی عمرته الأولى، فلمّا سمع به أهل مکة خرجوا عنه، و تحدّثت قریش بینها انّ النبی (ص) و أصحابه فی عسر و جهد و حاجة، فاصطفّوا له عند دار الندوة لینظروا إلیه و لأصحابه معه، فلمّا دخلها اضطبع بردائه فأخرج عضده الیمنى ثم قال: رحم الله إمرءا أراهم الیوم من نفسه قوّة، ثم استلم الرکن و خرج یهرول و یهرول أصحابه معه.
و قال محمد بن سعد(2): ثم عمرة رسول الله (ص) القضیة فی ذی القعدة سنة سبع من مهاجره. قالوا: لمّا دخل هلال ذی القعدة أمر رسول الله (ص) أصحابه أن یعتمروا قضاء لعمرتهم التی صدّهم المشرکون عنها بالحدیبیة، و أن لا یتخلّف منهم أحد إلّا رجال استشهدوا منهم بخیبر و رجال ماتوا، و خرج مع رسول الله (ص) قوم من المسلمین عمارا، فکانوا فی عمرة القضیة ألفین، و استخلف على المدینة أبارهم الغفاری، و ساق رسول الله (ص) ستین بدنة، و جعل على هدیه ناجیة بن جندب الأسلمی، و حمل رسول الله السلاح البیض و الدروع و الرماح و قاد مائة فرس، فلمّا انتهى الى ذی الحلیفة قدّم الخیل أمامه علیها محمد بن مسلمة و قدّم السلاح و استعمل علیه بشیر بن سعید، و أحرم رسول الله (ص) من باب المسجد و لبّى و المسلمون معه یلبّون، و مضى محمد بن مسلمة فی الخیل الى مرّ الظهران فوجد بها نفرا من قریش، فسألوه فقال: هذا رسول الله یصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله. فأتوا قریشا فأخبروهم، ففزعوا و نزل رسول الله (ص) بمرّ الظهران، و قدم السلاح الى بطن یأجج حیث ینظر الى انصباب الحرم، و خلّف علیه أوس بن خولی الأنصاری فی مائتی رجل، و خرجت قریش من مکة الى رؤوس الجبال و خلّوا مکة، فقدم رسول الله (ص) الهدی أمامه فحبس بذی طوى، و خرج رسول الله على راحلته القصوى و المسلمون متوشحون السیوف محدقون برسول الله یلبّون، فدخل من الثنیة التی تطلعه على الحجون و عبد الله بن رواحة آخذ بزمام راحلته، فلم یزل رسول الله (ص) یلبّی حتّى استلم الرکن بمحجبة مضطبعا بثوبه، و طاف على راحلته و المسلمون یطوفون معه قد اضطبعوا بثیابهم، و عبد الله بن رواحة یقول:
خلّوا بنی الکفار عن سبیله
خلّوا فکل الخیر مع رسوله
نحن ضربناکم على تأویله
کما ضربناکم على تنزیله
ضربا یزیل الهام عن مقیله
و یذهل الخلیل عن خلیله
یا رب انّی مؤمن بقیله
فقال عمر: یا ابن رواحة أیهن. فقال رسول الله: یا عمر انّی أسمع فأسکت عمر و قال رسول الله أیهن یا ابن رواحة، قال: قل «لا إله إلّا الله وحده و نصر عبده و أعزّ جنده و هزم الأحزاب وحده». قال: فقالها ابن رواحة فقالها الناس کما قال.
قال: ثم طاف رسول الله بین الصفا و المروة على راحلته، فلمّا کان الطواف السابع عند فراغه و قد وقف الهدی عند المروة قال (ص): هذا المنحر، و کل فجاج مکة منحر. فنحر عند المروة و حلق هناک، و کذلک فعل المسلمون.
فأمر رسول الله (ص) ناسا منهم أن یذهبوا الى أصحابهم ببطن یأجج فیقیموا على السلاح و یأتی الآخرون فیقضوا نسکهم، ففعلوا. ثم دخل رسول الله (ص) الکعبة فلم یزل فیها الى الظهر، ثم أمر بلالا فأذّن على ظهر الکعبة و أقام رسول الله (ص) بمکة ثلاثا، و تزوّج میمونة بنت الحارث الهلالیّة. فلمّا کان عند الظهر من الیوم الرابع أتاه سهیل بن عمرو و حویطب بن عبد العزى فقالا: قد انقضى أجلک فاخرج عنّا. و کان رسول الله (ص) لم ینزل بیتا بل ضربت له قبّة من أدم بالأبطح. فکان هناک حتّى خرج منها، و أمر أبا رافع فنادى بالرحیل و قال: لا یمسینّ بها أحد من المسلمین. و أخرج عمّارة بنت حمزة بن عبد المطلب من مکة، و ام عمارة سلمى بنت عمیس، و هی ام عبد الله بن شدّاد بن الهاد، فاختصم فیها علی و جعفر و زید بن حارثة أیّهم تکون عنده، فقضى بها رسول الله (ص) لجعفر من أجل انّ خالتها عنده و هی أسماء بنت عمیس.
و رکب رسول الله (ص) حتّى نزل سرف، و تتامّ الناس إلیه، و أقام أبو رافع بمکة حتّى أمسى فحمل إلیه میمونة بنت الحارث فبنى علیها رسول الله بسرف، ثم أدلج فسار حتّى قدم المدینة، انتهى.
و قال ابن هشام(3): قال ابن إسحاق: باسناده عن ابن عباس انّ رسول الله (ص) تزوّج میمونة بنت الحرث فی سفره ذلک و هو حرام- یعنی محرم. و کان الذی زوّجه إیّاها العباس بن
عبد المطلب.
ثم قال ابن هشام: و کانت جعلت أمرها الى أختها ام الفضل، و کانت ام الفضل تحت العباس، فجعلت ام الفضل أمرها الى العباس، فزوّجها رسول الله (ص) بمکة و أصدقها عن رسول الله أربعمائة درهم.
ثم قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله (ص) بمکة ثلاثا، فأتاه حویطب بن عبد العزى فی نفر من قریش فی الیوم الثالث، و کانت قریش قد وکّلته بإخراج رسول الله (ص) من مکة، فقالوا: انّه قد انقضى أجلک فاخرج عنّا. فقال النبی: و ما علیکم لو ترکتمونی فأعرست بین أظهرکم و صنعنا لکم طعاما فحضرتموه. قالوا: لا حاجة لنا فی طعامک فاخرج عنّا. فخرج رسول الله (ص) و خلّف أبا رافع مولاه على میمونة حتّى أتاه بها بسرف، فبنى بها رسول الله هنالک. ثم انصرف رسول الله (ص) الى المدینة فی ذی الحجة.
ثم قال ابن هشام: فأنزل الله فیما حدّثنی أبو عبیدة لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْیا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِینَ مُحَلِّقِینَ رُؤُسَکُمْ وَ مُقَصِّرِینَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِکَ فَتْحاً قَرِیباً یعنی خیبر، انتهى.
و قال الحلبی(4): عمرة القضاء و یقال لها عمرة القضیة، لانّ رسول الله (ص) قاضى قریشا علیها، أی صالحهم علیها و من ثم قیل لها عمرة الصلح، و یقال لها العمرة القصاص. قال السهیلی: و هذا الاسم أولى بها، لقوله تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ قال الحافظ ابن حجر: فتحصّل من أسمائها أربعة: القضاء، و القضیة، و الصلح، و القصاص أی لأنها کانت فی شهر ذی القعدة من السنة السابعة، أی و هو الشهر الذی صدّه فیه المشرکون عن البیت منها سنة ست، لیست قضاء عن العمرة التی صدّ عن البیت فیها، فانّها لم تکن فسدت بصدّهم عن البیت، بل کانت عمرة تامّة معدودة فی عمره (ص) التی اعتمرها بعد الهجرة، و هی أربعة: عمرة الحدیبیة، و عمرة القضاء و عمرة الجعرانة لمّا قسم
غنائم حنین، و العمرة التی قرنها مع حجة الوداع بناء على ما هو الراجح من انّه (ص) کان قارنا. الى أن قال: فلمّا انتهى الى ذی الحلیفة قدّم الخیل أمامه، فقیل: یا رسول الله حملت السلاح و قد شرطوا أن لا ندخلها علیهم بسلاح إلّا بسلاح المسافر و السیوف فی القرب. فقال رسول الله: لا ندخل علیهم الحرم بالسلاح، و لکن یکون قریبا منه، فإن هاجنا هیّج من القوم کان السلاح قریبا منّا. فمضى بالخیل محمد بن مسلمة، فلمّا کان بمرّ الظهران وجد نفرا من قریش فسألوه فقال: هذا رسول الله یصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله و قد رأوا سلاحا کثیرا فخرجوا سراعا حتّى أتوا قریشا فأخبروهم بالذی رأوا من الخیل و السلاح، ففزعت قریش و قالوا: ما أحدثنا حدثا و انّا على کتابنا و مدّتنا ففیم یغزونا محمد فی أصحابه. ثم انّ قریشا بعثت مکرز بن حفص فی نفر من قریش إلیه (ص)، فقالوا: و الله یا محمد ما عرفت صغیرا و لا کبیرا بالغدر، تدخل بالسلاح فی الحرم على قومک و قد شرطت علیهم أن لا تدخل إلّا بسلاح المسافر و السیوف فى القرب. فقال: انّی لا أدخل علیهم بسلاح فقال مکرز: هو الذی تعرف به البرّ و الوفاء، ثم رجع الى مکة سریعا و قال: انّ محمدا لا یدخل بسلاح و هو على الشرط الذی شرّط لکم.
فلمّا اتّصل خروجه (ص) لقریش خرج کبراؤهم من مکة حتّى لا یروه (ص) یطوف هو و أصحابه عداوة و بغضا و حسدا لرسول الله، فدخل رسول الله و أصحابه مکة راکبا ناقته القصواء. الى أن قال: و جعل (ص) السلاح فی بطن یأجج، و هو موضع قریب من الحرم، و تخلّف عنده جمع من المسلمین نحو مائتین من أصحابه، علیهم أوس بن خولی.
الى أن قال: و کان (ص) تزوّج میمونة بنت الحرث الهلالیّة، و کان اسمها برة فسماها رسول الله میمونة، و هی اخت ام الفضل زوج العباس. و کان تزوّجه (ص) میمونة قبل أن یحرم بالعمرة، و قیل بعد أن أحلّ منها، و قیل و هو محرم، و هو ما رواه البخاری و مسلم عن ابن عباس، و رواه الدار قطنی من طریق ضعیف عن أبی هریرة، ثم قال: و لا مانع من نکاحه و هو محرم، فانّ من خصائصه حل عقد النکاح فی الإحرام. و فی کلام السهیلی کان من شیوخنا من یتأوّل قول ابن عباس «و هو تزوّجها محرما» أی فی الشهر الحرام و فی البلد الحرام، و لم یرد
الإحرام بالحج.
ثم قال: قال ابن کثیر: و فیه نظر، لانّ الروایات عن ابن عباس متضافرة بخلاف ذلک التی منها تزوّجها و هو محرم. هذا کلامه. و عن ابن المسیّب: غلط ابن عباس أو قال وهم ابن عباس، ما تزوّجها النبی (ص) إلّا و هو حلال، و من ثم روى الدار قطنی عن عکرمة عن ابن عباس انّ رسول الله (ص) تزوّج میمونة و هو حلال. قال السهیلی: فهذه الروایة عن ابن عباس موافقة لروایة غیره، فقف علیها فانّها غریبة عن ابن عباس الى أن قال: و لمّا خرج رسول الله (ص) من مکة تبعته عمارة، و قیل اسمها ام أبیها، و قیل أمامة، و قیل أمة الله. قال ابن عبد البر: و المثبت أمامة.
و فی لفظ: انّ أبا رافع خرج بها فتناولها علی فأخذ بیدها و قال لفاطمة: دونک ابنة عمّک، فلمّا وصلوا المدینة اختصم فیها علی و أخوه جعفر و زید بن حارثة، فقال زید بن حارثة: أنا أحقّ به لانّها بنت أخی و أنا وصیّه لانّه (ص) آخى بین حمزة و زید و جعل حمزة وصیّه، و قال علی: أنا أحقّ بها لانّها بنت عمّی و جئت بها من مکة، و قال جعفر: أنا أحقّ بها لأنها بنت عمّی و خالتها تحتی و هی أسماء بنت عمیس، فقضى بها (ص) لجعفر و قال: الخالة بمنزلة الأم.
الى أن قال: و قال (ص) لعلی فی هذا الموطن: أنت أخی و صاحبی، و فی لفظ: أنت منّی و أنا منک، و قال لجعفر: أشبهت خلقی و خلقی، و قد تقدّم منه (ص) ذلک له فی خیبر. انتهى ما نقله الحلبی ملخّصا.
1) الکامل 2/ 227.
2) الطبقات الکبرى 2/ 120.
3) السیرة النبویة 4/ 14.
4) السیرة الحلبیة 3/ 61 و 66.